شكل التعدد الديني معطى تاريخيا في المغرب منذ وصول اليهود واختلاطهم بالسكان المحليين الأمازيغ الذين تبنى بعضهم هذا الدين الجديد، وتقوى التعدد بوصول الديانة المسيحية، التي أصبح لها شأن كبير خلال مرحلة الوجود الروماني، وهو ما أدى إلى تراكم إرث حضاري وثقافي غني، رغم أن الإسلام حاز على صفة الدين الرسمي منذ أمد بعيد، لكن هذا لم يمنع من استمرار الوجود المسيحي من خلال معطيات بشرية كاستقرار عدد هام من المسيحيين اليوم بالمغرب وفي فترات تاريخية سابقة، أو من خلال ما وجد من آثارهم من مساكن و كنائس وأديرة ومعابد واستمرار تداول بعض طقوسهم ورموزهم وأسمائهم وغيرها، ويرمي هذا المقال في المحور الأول رصد كرنولوجيا الوجود المسيحي بالمغرب، وتقديم قراءة في فيلم ” أجراس تومليلين” للمخرج حميد درويش، في المحور الثاني : أ_ الوجود المسيحي بالمغرب : جذور قديمة واستمرار في الظل حتم الموقع الجغرافي للمغرب القريب من أوربا، حدوث تلاقح و تواصل حضاري، وثقافي بينهما على مر العصور، وكانت إسبانيا بوابة رئيسة لتجسير هذا التواصل مع أوربا وبخصوص انتشار المسيحية فالاحتمال المرجح أن تواصل المغاربة معها قد جاء عبر الأراضي الإسبانية، وأقدم إشارة في هذا الصدد تعود إلى سنة 298 م، حيث “استشهد” عدد من المسيحيين بموريطانيا الطنجية. لقد ترك الوجود المسيحي بالمغرب العديد من الآثار المادية، والمعتقدات، والطقوس، والنقوش، وهذا ما أكد عليه البحث الأثري مثلا بموقع وليلي التي كانت من عواصم الوجود الروماني بالمغرب. وبرز الوجود المسيحي على ساحة الأحداث السياسية في المغرب من جديد في العهدين المرابطي، والموحدي، وذلك بتوظيف عناصر مسيحية كميلشيات عسكرية من السجناء، إضافة إلى بعض العناصر كانت تمارس التجارة ، وشكل حدث “استشهاد” الرهبان الفرنسيكسان(الإخوان الصغار) الخمس بمراكش سنة 1220م، على عهد المستنصر بالله الموحدي، أهم حدث يؤرخ لهذه المرحلة من الوجود المسيحي بالمغرب. شكل القرن التاسع عشر الميلادي بداية مرحلة جديدة في تاريخ الوجود المسيحي بالمغرب، وذلك بعدما تم احتلال الجزائر منذ سنة 1830م، ، وتزايدت أطماع فرنسا في ضم المغرب، وهو ما انعكس على حجم هذا التواجد المسيحي بالمنطقة ككل، وقد بلغ عدد الأجانب بمدينة الدارالبيضاء، وحدها سنة 1906م ما يقارب 458 فردا، بعدما كان سنة 1856 م يقارب 325 فرد، وبلغوا في المجموع مع نهاية القرن التاسع عشر حوالي 5000 نسمة. وفي نفس الفترة ظهرت شخصية الأب José Lerchundi الذي استقر بمدينة طنجة منذ سنة 1880م، وكان وراء ” بناء مؤسسات للتعليم الابتدائي، والإعدادي، و مستشفى، ومدرسة للطب، كما وضع ساعة كبيرة على واجهة الكنيسة، وقام كذلك بإنشاء شبكة لتوزيع الكهرباء في جزء من المدينة، وهو من أدخل إلى المغرب أولى المطابع التي جلبها من ألمانيا”. شهدت مرحلة الحماية 1912/1956م تزايد عدد المسيحيين بالمغرب من مدنيين وعسكريين ومعمرين ورهبان، إذ كان تواجدهم ضروريا لبسط الهيمنة الاستعمارية، وتمكين فرنسا وإسبانيا من استغلال الثروات الطبيعية للمغرب، وبالتالي تعمق التداخل والتواصل بين المغاربة والمسيحيين أكثر، وأفرز الوضع علاقات جديدة، بلغت حد الزواج المختلط، واستمر الوجود المسيحي في المغرب إلى اليوم من خلال اختيار العديد من الرهبان وغيرهم الاستقرار في المغرب لغايات مهنية أو روحية وغيرها، ويتجلى ذلك في وجود بعض الأديرة والكنائس التي لازالت تعرف نشاطا دينيا، مثلما نجد في الرباطوالدارالبيضاء وميدلت… ب_ الدير بين خدمة التبشير و نشر قيم التعايش يحضر الدير والرهبان بكثافة في السينما العالمية، لأنه معطى اجتماعي وثقافي وعمراني لا يمكن القفز عليه في ظل بيئة لها تاريخ طويل مع المسيحية، و نذكر هنا على سبيل المثال فيلم ” ، L'appel du silence ” للمخرج الفرنسي Léon Poirier، وفيلم” Le Grand Silence” للمخرج الألماني HYPERLINK “https://fr.wikipedia.org/wiki/Philip_Gr%C3%B6ning” \o “Philip Gröning” Philip Gröning، وفيلم ” الصمت ” HYPERLINK “https://fr.wikipedia.org/wiki/Martin_Scorsese” \o “Martin Scorsese” Martin Scorsese، إلا أن تناول المخرج درويش لدير الرهبان في المغرب وكونه من أصول مغربية، يعتبر سابقة في السينما المغربية، ولابد من الإشارة هنا، أن دير تومليلين الذي اتخذه موضوعا لفيلمه قد احتضن مشاهد تصوير فيلم “Des hommes et des dieux” للمخرج الفرنسي HYPERLINK “https://fr.wikipedia.org/wiki/Xavier_Beauvois” \o “Xavier Beauvois” Xavier Beauvois، حول رهبان تبحرين الذين تعرضوا للتصفية بالجزائر منتصف التسعينيات من القرن الماضي. اشتغل المخرج حميد درويش على مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين الميلادي، حين أخرج فيلم ” أجراس تومليلين، حكاية البنيديكتيين في المغرب”2019 م، لتناول موضوع الدير وظروف نشأته وأسماء الرهبان المنتمين إليه، وعلاقاتهم مع محيطهم و بعض الوظائف التي قاموا بها، قبل أن يتم إغلاقه، وقد شكل الدير محورا أساسيا في الفيلم، ومنطلقا للتعليق، والحوارات مع المستجوبين، مع الانفتاح على فضاءات أخرى كتنغير وكلميمة والقباب، لإغناء الجانب المكاني والخروج من محيط الدير، وتجنب الإطناب، كما تم توظيف أرشيف من الصور الثابتة والفيديوهات تؤرخ لتلك المرحلة، وهو ما منح للفيلم مرونة لسرد حكاية الرهبان البنيدكتيين في الأطلس المتوسط، ويمكننا التركيز في قراءة الفيلم على النقط التالية : أ_ ب_ نشأة دير تومليلين انطلق المخرج حميد درويش في فيلمه ” أجراس تومليلين” من إشكالية تأسيس الدير وظرفيته، فإذا كان مبرر تواجد الرهبان المسيحيين بالمغرب عموما في السياسة الاستعمارية متعلقا بتوفير الظروف الملائمة ليمارس الأوربيون طقوسهم الدينية، فإن بداية عقد الخمسينيات أفرزت تطورات جديدة على المستوى العالمي بخصوص الاستعمار وتصفيته، وهو ما يتناقض ووصول الرهبان إلى المغرب خلال هذه الفترة. لم تعلن فرنسا عن نيتها في مغادرة المغرب بشكل واضح، لكن التطورات العامة كانت تتجه لإعلان ذلك، بعد بداية نجاح عمل الحركات التحررية في مستمعرات كثيرة كالهند. في هذه الظرفية تم تأسيس دير” Christ Roi ” المعروف بتومليلين على بعد كلمترات شرق مدينة أزرو في الأطلس المتوسط، وقد بدأ الاشتغال على المشروع في دواليب الإدارة الكنسية منذ سنة 1945م، ومع وصول الأسقف Amédée Lefèvre سنة 1947م إلى المغرب بدأت الإجراءات والمشاورات العملية لإنشاء هذا الدير، هذا الأخير واجه بناؤه بعض الصعوبات على المستوى المالي قبل أن تتبرع السيدة Edmond Barbaro، بمبلغ سبعة ملايين فرنك فرنسي، وهو ما سهل المأمورية أكثر، وشرع في بناء بعض المرافق من الدير منذ سنة 1951م ليلتحق به عشرون راهبا بنيديكتيا عاشوا هناك ما يقارب عقدين من الزمن، قبل أن يغلق سنة 1968م، لأسباب، تتعلق أساسا باتهام الرهبان بالتبشير من طرف بعض الأحزاب السياسية، إلا أن الحاجة إلى الموارد المالية كان الدافع الرئيسي وراء إغلاقه، بحكم أن مراكز أخرى للمسيحيين استمرت في ممارسة نشاطها إلى اليوم، شأن دير سيدة الأطلس بميدلت. يفتتح الفيلم بعتبة موسيقية عبارة عن موال أمازيغي أطلسي في إحالة إلى الفضاء العام للفيلم، ثم يأتي التركيز في ما بعد على مكونات الدير، من خلال لقطات خارجية لتقديم ما تبقى من أطلال الدير، ولقطات داخلية تسافر بنا في وظائف تلك الغرف ومختلف المرافق، وقد قربتنا الحوارات مع من كان هناك من رهبان ومغاربة إلى عوالم الدير في السابق. سمح تنويع اللقطات في الكشف عن جمالية المكان بأشجاره والتضاريس المحيطة به، كما تجلت جمالية المعمار وانسجامه مع الخصوصيات الطبيعية للمنطقة، وقد مزج المهندس Jean Michel Riders الذي وضع التصميم بين عدة نماذج ضمنها العمارة اليابانية، واشتغل على أن يؤدي الفضاء عامة دوره في الانفتاح والتأمل والعبادة. لابد من الإشارة أن مكونات الدير لم تبن من فراغ، بل كانت هناك مدرسة خاصة بالذكور من قبل، وبينت باقي المرافق من مستوصف، وقاعات الدرس بشكل تدريجي، مع توسع خدمات الدير، وتزايد عدد الوافدين عليه. ب_ ب _ رهبان تومليلين بين التبشير الصامت والعمل الإنساني بدأ دير تومليلين في استقبال الرهبان البنديكتيين منذ غشت 1952 م، حيث كان الراهب دوني مارتن أول الملتحقين رفقة راهب أخر، والتحق الرهبان 18 الآخرين يوم 7 أكتوبر من نفس السنة. كان قرار إرسال هؤلاء الرهبان يندرج ضمن مشروع ضخم للكنيسة الكاثوليكية لدعم تواجدها في بلاد الإسلام، وبالتالي لا يمكن فصل هذا القرار عن التبشير الصامت، رغم أن آراء رجالات الكنيسة أنذاك، وعلى رأسهم الأسقف Amédée Lefèvre، والأب Albert Peyriguère يرفضان ما يسمى بالتبشير، وهي نفس الخلفية التي حكمت فيلم حميد درويش. لم يستحضر الفيلم التفاصيل الدقيقة لإنشاء الدير، ولكنه عاد بنا إلى محطات بارزة في سياسة الكنيسة الكاثوليكية بالمغرب خاصة بعد وقبل مغادرة ليوطي للمغرب سنة 1925 م، ومواقف رجال الدين من التطورات السياسية في المغرب خلال الخمسينيات، وحاول المخرج أن يقدم لنا بورتريهات لأهم الرهبان الذين بصموا تجربة دير تومليلين، وسبب وقوع الاختيار عليهم لتحمل مسؤولية الاستقرار فيه. ومن الرهبان البارزين في دير تومليلين نجد دوني مارتن، الذي عين رئيسا للدير لتوفره على شروط القيادة، وثقافته الواسعة وقدرته الجيدة على التواصل، إلى جانب الراهب بيرنارد الذي درس الفلسفة لمدة في ثانوية طارق بن زياد لسد الخصاص في الموراد البشرية، بل واستمر في التدريس بمنطقة كلميمة لسنوات بعد إغلاق الدير. كان الرهبان الذين اختيروا للقدوم إلى الأطلس المتوسط غير ناطقين بالأمازيغية، وثلاثة منهم فقط يعرفون اللغة العربية، ومن المؤكد أنها في الغالب ليست دارجة المغرب بما أن بعضهم قد عاش تجربة سابقة في المشرق العربي، وهذا يطرح أكثر من علامة استفهام، عن الغايات الحقيقية لتوطينهم هناك، إذ كيف سيتواصلون مع الساكنة التي انفتحوا عليها في ما بعد، وهي ساكنة أمازيغية في الغالب؟. كان لكل راهب تخصص معين فهناك من درس الفلسفة ومنهم من درس علم الأديان والتمريض، كما كان لبعضهم إلمام بأمور الزراعة وتربية المواشي والنحل، ولهذا فقد استغل الرهبان كفاءاتهم ومهاراتهم للتقرب من الساكنة التي تقصد الدير. وكان الجانب الصحي من أكثر الأمور التي استقطبت الساكنة بسبب انتشار الأمراض، وهو ما تشير إليه الحوارات مع من عاشوا هناك. لا يجب إغفال إيواء الدير للكثير من الأيتام، وتقديمه لخدمات تعليمية من خلال دروس الدعم، وتوفير خزانة غنية من الكتب سمحت لتلاميذ ثانوية طارق بالانفتاح على الآداب والفلسفة والفنون العالمية. إن قدوم الرهبان البنيديكتيين إلى بلد يدين معظم سكانه بالإسلام تحكمه خلفية تبشيرية، إلا أن الظروف التي كان يعرفها المغرب أنذاك فرضت على الرهبان خطابا تبشيريا غير مباشر، وذلك بإعطاء القدوة في العمل والمثابرة والانضباط، وتمهيد الطريق للتبشير المباشر. لم يكن المغاربة الذين يقصدون الدير من خلال ما قدمه الفيلم مهتمين بهذه الخلفية، كان هم الأيتام أن يجدوا مأوى يقيهم من البرد، وشغل الجوعى أن يجدوا لقمة تنقذهم من الموت، إنه منطق يحكمه تواطؤ غير ظاهر بين الرهبان والساكنة، وإن كان ذلك يتم في أجواء يسودها الاحترام والإنصات المتبادلين. استقبل الدير منذ السنوات الأولى لإنشائه أعدادا هامة من المسلمين، منهم من تم توظيفه للعمل إلى جانب الرهبان، ومنهم من قصده بحثا عن حل لأزمته، ويقدم فيلم ” أجراس تومليلين” شهادات حية لمن كانوا هناك، نموذج الأستاذ ميلود ضايفي الذي عاش في الدير ست سنوات، وتعلم أشياء كثيرة منها اللغة الفرنسية التي أصبح مدرسا لها في مدرجات الجامعات، كما تعلم منهم الصبر والمثابرة ، وهو ما أهله لإعداد معجم أمازيغي ضخم لازال مرجعا للمهتمين بهذه اللغة. أسماء كثيرة مرت من الدير، تستحضرها الحوارات في الفيلم منهم من أصبح وزيرا، ومنهم من ساهم في إغناء الفكر الإنساني في مجالات معرفية وفنية مختلفة نذكر منهم الأستاذين عبد الله حمودي والعربي مزين و الفنان التشكيلي الجيلالي الغرباوي. كان الدير يستقبل سنويا آلاف المرضى والجوعي والباحثين عن المأوى منذ تأسيسه، وبعد الاستقلال فتح الباب أيضا للقاءات فكرية عميقة لتبادل الآراء والخبرات، لقاءات حضرتها أسماء بارزة من مختلف بقاع العالم كالمفكر لوي ماسينيون، كما كان الدير وجهة لأسماء بارزة سياسيا أنذاك كالمهدي بنبركة و أحمد بلافريج ومحجوبي أحرضان…، وأكثر من ذلك قام الملك الراحل الحسن الثاني حين كان وليا للعهد وشقيقته للالة عائشة بزيارة للدير. كان الدير وجهة الكثير من الزوار، مثلما كان مقر إقامة للكثيرين، إلا أنه لم يثبت على الأقل بشكل علني أن حدث تمسح أو تنصير لأحد، مثلما حدث بالنسبة لمحمد بن عبد الجليل ذو الأصول الفاسية، الذي هاجر للاستقرار بباريس بعدما نبذته عائلته ومحيطه، وهو ما يكشف عن ابتعاد الرهبان عن التنصير المباشر، واكتفائهم بلعب أدوار إنسانية في منطقة تعاني من أزمات عديدة، وكان وجودهم أساسيا لإنقاذ الكثير من المغاربة من الجهل والجوع والموت. خاتمة لقد شكل فيلم حميد درويش استنطاقا لجزء من ذاكرة المغاربة وتاريخهم الراهن، من خلال الاشتغال على تيمة جديدة تتعلق بالوجود المسيحي بالمغرب، بالانطلاق من دير تومليلين، الذي يشهد على التعايش بين المسيحيين والمسلمين، وقد وظف المخرج الكثير من الوثائق والشهادات وهو ما أعطى لفيلمه صدقا وشاعرية خاصين. محمد زروال / بني ملال جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة