نبع فاضت منه مئات الألحان والأغاني هو نهر من العطاء الفني الخالد أثرى الحياة الفنية بمئات الألحان والأغاني على مدى 70سنة. نشأ عبد الوهاب في أسرة متدينة ، وكان أبوه مؤذنا لمسجد الشيخ عبد الوهاب الشعراني، وكان فخورا بانتسابه له بصلة الدم. ووضعت البيئة الشعبية والفقر الذي يخيم عليها، أول ملامح شخصية الطفل محمد. فنشأ وهو يمقت الفقر والحياة الهامشية. وتاقت نفسه لأن يكون واحدا من أبناء الطبقة الأرستقراطية، الذين يراهم كلما سنحت له فرصة الخروج من السياج الحديدي للحي الشعبي، الذي قدر له أن يولد ويتربى فيه. كان يختلس من الزمن أوقاتا غير قصيرة، ليذهب الى المقاهي ويقف في مكان خفي خلف” التخت” يستمع للتواشيح والمواويل والأدوار والأغاني. وبسبب هذه الرغبة الجامحة عنده في الاستماع لكبار المنشدين، ناله أذى كبير من والده، الذي كان يدفعه دفعا لحفظ القرآن ومحاولة إدخاله في نطاق الصوفية، إلا أن محمد عبد الوهاب بدأ يرسم أول خطوط التوجه نحو الفن الأصيل. ففي حين تربى في مهد الثورة الفنية، من خلال عالم صوفي ورثه عن أبيه، وجد نفسه في مهد ثورة سيد درويش في الموسيقى. تلميذ أمير الشعراء في إحدى الليالي، التي حملت البشرى الى عبد الوهاب، كان أمير الشعراء أحمد شوقي يشاهد إحدى المسرحيات، وعندما انتهى الفصل الأول رأى طفلا يقف على المسرح بين فصلي المسرحية ويغني، وبدأ الشاعر يستمع له، وأعجب بملامح صوته القوي ومخارج حروفه، فأمر بإحضاره إليه. وانتابت محمد عبد الوهاب حالة من الفزع، لكن الشاعر هدأ خاطره، وأخبره أنه أعجب بصوته الذي يعد ثروة حقيقية. إلا أنه اتفق مع حكمدار العاصمة الانجليزي على أن يمنع هذا الطفل من الغناء حتى يتجاوز سن البلوغ وإلا فسدت أحباله الصوتية. وعمد الى رعايته، وأوصاه بالدراسة، بل ان رعاية أحمد شوقي له وصلت الى حد أن دفعه الى الذهاب الى الملحن محمد القصبجي ليتعلم على يديه العزف على آلة العود. لكن المعهد الحقيقي الذي تعلم فيه عبد الوهاب حقا هو اقترابه من أمير الشعراء ليقضي معظم وقته معه. وبعد أن يودع عبد الوهاب عالم شوقي في وقت متأخر من الليل، يخرج الى الشارع وفي عقله ووجدانه حصيلة ضخمة يسترجعها في سكون الليل، وكان يمر على أمين المهدي، أمهر عازف عود في عصره، فيجلس معه وقتا يتعلم فيه ويستوعب، ثم يمر على الشيخ درويش الحريري، فيستمتع في جلسته الليلية بعناصر متعددة من الموشحين والمبتهلين والمنشدين. كان طموح عبد الوهاب واندفاعه نحو الطبقة الأرستقراطية، يدفعانه الى الفن الرفيع، رغم انتمائه الى الطبقة الفقيرة، فكان يولع بالأبهة والفخامة والمظهر البراق، وهذا ما تعلمه من عالم أحمد شوقي. ولكي يربط نفسه بالشارع المصري والحارة والمقهى والقرية كان يدرس المواويل الشعبية في أغنياته كمقدمات للسلطنة، وكانت كلها مواويل شائعة. وسوسة كان عبد الوهاب جدا يخشى على نفسه المرض والعدوى الى درجة الوسوسة، وقد حدث أن اتصل به صحافي بالهاتف وطلب منه موعدا للقاء صحافي معه، وتم تحديد الموعد. وذهب الصحافي إليه في منزله، وكان معه مصور صحفي، وبينما كان عبد الوهاب ينزل درجات السلم على مهل، سعل المصور بصوت مسموع فاندفع عبد الوهاب عائدا من حيث أتى، وأرسل لهما من يقول ” ان الأستاذ قد أجل الموعد لأجل غير مسمى ” دون إبداء أي سبب. كان عبد الوهاب يصر على ألا يتنازل عن الطبقة الأرستقراطية التي وصل إليها، بعد جهاد جهيد، لدرجة أنه لا يقيم علاقة مع أي أحد، ولا يأخذ المبادرة الى تشجيع الموهوبين إلا إذا أثبت الموهوب جدارته. والدليل على ذلك أنه ظل صديقا لعبد الحليم حافظ أعواما طويلة ولم يفكر في التلحين له إلا بعد أن أصبح عبد الحليم فنانا معترفا به. ومن أجل هذا كان عبد الوهاب منذ صغره يسعى سعيا حثيثا الى الدخول في الطبقة العليا، وأن يكون واحدا منها، وهذا هو السبب الذي جعله يتنقل بين منزل وآخر بحثا عن ميله الشديد هذا، فقد ولد في المنزل رقم 24 شارع الشعراني الجواني، التابع لقسم الجمالية وليس باب الشعرية كما أشيع، ومن عام 1925 وحتى عام 1933 عاش عبد الوهاب في منزل رقم 1 شارع إسماعيل الفلكي، ومن عام 1933 وحتى عام 1942 انتقل عبد الوهاب الى البيت رقم 4 شارع سويرس بك في شارع العباسية ويقع على اليسار من مدرسة فؤاد الأول الثانوية. وكان في هذه المدرسة آنذاك الطالبان محمد أنور السادات وإحسان عبد القدوس، اللذان كانا يحرصان على مشاهدة عبد الوهاب عند عبوره الشارع، ومن سنة 1942 وحتى 1954 عاش عبد الوهاب في بيت في شارع افراموس المتفرع من شارع الهرم في الجيزة، ومن عام 1954 وحتى وفاته في 3 مايو 1991 عاش في عمارة ثريا رقم 3 شارع الفردوس المتفرع من شارع محمد مظهر في الزمالك جوار مكتبة القاهرة الكبرى، وفي مواجهة دار الكتب على الضفة الأخرى من النيل. حتى حياته الاجتماعية كانت ترتبط في تطورها برغبته العارمة في الانتماء الى الطبقة المتميزة. فقد تزوج عبد الوهاب ثلاث مرات، الأولى بزبيدة الحكيم من عام 1931 الى عام 1941، والثانية كانت بإقبال نصار من عام 1944 الى عام 1958 ثم تزوج بنهلة القدسي، الزوجة الثالثة، وهي تنتمي الى الطبقة التي تمنى طوال عمره أن يكون أحدا من أفرادها، من 1958 الى عام 1991، وقد أنجب أبناءه الخمسة محمد وأحمد وعفت وعصمت وعائشة من زوجته الثانية، وقد ماتت ابنته بعد موته بأربعين يوما. مواقف وطرائف أثناء بروفات { انت عمري} بدأ العمل في بيت عبد الوهاب. وكانت أم كلثوم وعبد الوهاب يسهران كثيرا الى وقت متأخر من الليل، وكانت أم كلثوم تدخل غرفة نوم نهلة القدسي. لتقول لها: ” يا بت فيه حد يكون عنده عبد الوهاب وأم كلثوم، ويدخل ينام” ثم تداعبها وتخرج. في عام 1917 بعد وفاة الشيخ سلامة حجازي حاول ابنه عبد القادر حجازي استكمال مسيرة والده، وقال عن نفسه انه خليفته رغم أنه لم يكن موهوبا ولا مقبول الصوت، فنصحه أحد الأصدقاء بالاستعانة بالفتى عبد الوهاب أو بصوته تحديدا من تحت “الكمبوشة”، بينما يقوم عبد القادر بتحريك شفتيه وكأنه يغني. لكن الأمر انتهى بفضيحة كبرى أمام الجمهور لاختلاف غناء عبد الوهاب مع مخارج ألفاظ عبد القادر. بعد وفاة الشيخ سيد درويش عمل عبد الوهاب مع منيرة المهدية في مسرحية كليوباترا، وحدث أن ارتمت كليوباترا على صدر أنطونيو نحيل الجسم، عبد الوهاب، فسقط على الأرض أمام الجمهور ومن فوقه كليوباترا، ما أثار ضحكات الناس وانقلب الجو الرومانسي الى جو كوميدي فوق المسرح. وقد ألمح بعض مؤرخي الموسيقى العربية، الى أن عبد الوهاب عمد في هذه المسرحية الى الإيقاع بمنيرة في مأزق. تعرض عبد الوهاب لموقف محرج عندما دعي لسهرة مع كبار الشخصيات في أحد فنادق القاهرة. فقد سارع الى مصافحة مصطفى النحاس رئيس الوزراء آنذاك، الذي رفض قائلا:”لا أصافح المائعين.. مش أنت اللي بتغني مسكين وحالي عدم من كثر هجرانك.. يا للي تركت الوطن والأهل علشانك”. ويقول عبد الوهاب انه أصيب بدوار على اثر ذلك وغادر الحفل. كان عبد الوهاب والموجي يستمعان لألحان بعضهما بعضا، وكان عبد الوهاب يرشح الى الموجي المطرب أو المطربة التي تغنيها. واستمع عبد الوهاب ذات مرة، لأحد هذه الألحان دون أن يرشح أحدا. وفوجئ الموجي بعبد الوهاب بعد أسبوع يغنيه بكلمات أخرى لحسين السيد بعنوان ” أحبك وأنت فاكرني وأحبك وان ناسيني”، وغضب الموجي وذهب الى عبد الوهاب محتجا على هذا التصرف، فضحك عبد الوهاب وقال له: ” لقد أعجبت باللحن والأب من حقه عندما يعجب بإحدى كرافتات أبنائه أن يستعيرها”. السهل الممتنع تعامل عبد الوهاب مع صوته بذكاء إداري غير مسبوق، ففي مرحلة الصبا والشباب كان صوته منطلقا متوافرا له كل المحسنات الغنائية في الأداء مثل “العرب” أي ذبذبات الصوت في الغناء الشرقي، والتي تميز الأصوات القادرة المتمكنة المتربية في مدرسة المشايخ، تلك المدرسة الأصيلة والأساسية للغناء العربي عامة والمصري بصفة خاصة. لكن عبد الوهاب طوع ألحانه في خدمة صوته حسب المراحل السنية المختلفة وحسب متطلبات المراحل التي عاشها. ونقل عبد الوهاب ” الأداء الغنائي” عبر قرن من الزمان من غناء “المشايخ”، الذي لا يقدر عليه إلا عتاولة المعنى المغنى، الى أداء بسيط هو السهل الممتنع. وإذا كان صوت عبد الوهاب ظل منافسا صوت أم كلثوم فترة طويلة، فان ألحانه ظلت منافسا قويا لملحني أم كلثوم في المراحل المختلفة التي مر بها صوتها، منذ أن لحن لها الشيخ أبو سيد العلا محمد الى أن غنت لتلاميذ عبد الوهاب: محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي، ومعهم سيد مكاوي. واستطاع عبد الوهاب أن ينشئ مدرسة لألحانه وأسلوبه في الأداء تقف قوية في منافسة مدرسة أم كلثوم باختلاف فروعها واتجاهاتها، ولحن عبد الوهاب القصيدة والأغنية والمونولوج والديالوج والأغنية الدينية والشعبية والوطنية، وعبد الوهاب أول من فصل ” اللحن على الصوت ” ابتداء من صوته نفسه الى صوت شكوكو،الذي لحن له مونولوج “يا جارحة قلبي بقزازة..لماذا الهجر ده لماذا؟. ألف لحن وأغنية وقدم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، على مدى سبعين عاما، من الفن والغناء والتلحين والموسيقى الخالصة أكثر من 1000 أغنية ولحن، حيث بدأ التلحين بنفسه وبأسلوبه الخاص، وهو في العشرين من عمره، بعد أن كان يغني للشيخ سلامة حجازي وعبده الحامولي وسيد درويش وغيرهم. ولحن الموسيقار الكبير العديد من الألحان للأصوات النسائية والرجالية، التي ظهرت خلال العشرين. وانتقل عبد الوهاب الى رحمة الله تعالى، في الثالث من شهر مايو 1991 . مناصب وأوسمة اختاره الموسيقيون سنة 1956 نقيبا لهم، واختير في العام ذاته رئيسا لاتحاد النقابات الفنية، كما انتخب رئيسا لجمعية المؤلفين والملحنين أكثر من مرة: 1974 و1977 و1979 و1980 و1986. وتم اختياره سنة 1981 ليكون عضوا في مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصريين، وعين في مجلس الشورى المصري في العام ذاته. ونال عبد الوهاب من التكريم الكثير. فقد كرمه الرئيس جمال عبد الناصر في عيد العلم، ومنحه الرئيس أنور السادات رتبة ” اللواء ” الشرفية. وتم إطلاق اسمه على معهد الموسيقى العربية، وحصل على أوسمة من العديد من الدول، من بينها الوسام العماني الأكبر من سلطة عمان، ووسام الاستقلال من الأردن. عبد الوهاب على الشاشة قدم الموسيقار محمد عبد الوهاب للسينما سبعة أفلام، كلها من إخراج صديقه محمد كريم. وظهر في فيلم ” غزل البنات ” من إخراج أنور وجدي في أغنية “عاشق الروح”. كما ظهر كضيف شرف في فيلم ” منتهى الفرح” من إخراج محمد سالم. وأنتج محمد عبد الوهاب فيلم ” الحب الأول ” من بطولة جلال حرب ورجاء عبده وإخراج جمال مذكور، وفيلم “تاكسي حنطور” من بطولة محمد عبد المطلب وسامية جمال،وإخراج أحمد بدر خان، وفيلم “على بلد المحبوب” من إخراج حلمي رفلة، وبطولة سعد عبد الوهاب. وأفلام عبد الوهاب السبعة هي: الوردة البيضاء، مع سمير خلوصي، سنة 1933. دموع الحب، مع نجاة علي، سنة 1935. يحيا الحب، مع ليلى مراد، سنة 1938. يوم سعيد، مع سميحة سميح، سنة 1940. ممنوع الحب، أمام رجاء عبده، سنة 1942. رصاصة في القلب، مع راقية إبراهيم، سنة 1944. لست ملاكا، مع نور الهدى وليلى فوزي، سنة 1946.