في الصورة، كان رئيسا مجلسي البرلمان المغربي، يتبوءان مكانا في صدارة القاعة الكبرى لمجلس نواب الشعب التونسي، بما يليق بضيوف كبار على حفل مهيب يُمثل اللقاء الأول بين الرئيس المنتخب وشعبه، داخل فضاء يُمثل الديمقراطية والسيادة، ويُجسد لحظة تاريخية مليئة بالشحنة العاطفية والرمزية السياسية، حيث يؤدي الرئيس اليمين الدستورية ويقدم خطاب التنصيب في دلالة على التعاقد التأسيسي الذي سيربط بين الرجل والشعب على أرضية التاريخ من بوابة الدستور. حينها، ربما تكون قد جال في ذهنيهما وهما يستمعان للخطاب الأول لقيس سعيّد، صورة ملك المغرب محمد السادس معتليا المنبر نفسه وهو يخاطب قبلhttps://al3omk.com/?p=470149&preview=true سنوات قليلة المجلس التأسيسي لما بعد ثورة التونسية. كان جلالة الملك، آنذاك، قد اختار -بلاغيا- أن يستعمل صيغة المفرد المتكلم، تكثيفا لشعور “شخصي” إيجابي قبل أن يكون تقديرا “سياسيا” للدولة، بدلالة التحولات التي تعرفها “تونسالجديدة” بلد “الدستور المتقدم” الذي يعيش “مرحلة حاسمة في التاريخ” في أفق “إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي”. لقد كان المغرب من خلال قيادته السياسية العليا، يُعبر عن دعمه الكامل لاختيار الشعب التونسي تجديد ميثاقه السياسي في أفق الديمقراطية ودولة القانون. كان الأمر كذلك يتعلق بالتقاء شعبين ودولتين، على قاعدة نفس الطموح في الولوج لزمن الحداثة والتطوير المؤسسي، تماما كما تم اللقاء في لحظة أولى على قاعدة النضال الوطني والإصلاحية الفكرية المتنورة، وتماما كما تم اللقاء في لحظة ثانية على قاعدة الدولة الوطنية المجسدة لهوية كل من الأمتين التونسية والمغربية، والحاملة لقيم التحديث. بالقطع ليس من إمكانية لقراءة حدث الحضور المغربي الوازن في حفل تنصيب الرئيس قيس سعيّد، خارج هذا التأطير الذي يستدعي التاريخ لفهم التقاطع في المسارات التي صنعت كل من “الوطنية المغربية” و”الوطنية التونسية”، ويستدعي السوسيولوجيا لفهم القرب الثقافي على صعيد بناء المشروع المجتمعي المنفتح والمؤمن بقيم الحقوق الإنسانية والمساواة. بعد وفاة الرئيس قايد السبسي، اختار جلالة الملك أن يمثله الأمير مولاي رشيد في مراسيم الجنازة الرسمية -بما يعنيه ذلك من أهمية قصوى في الأعراف المرعية للملكية المغربية-، وخلال حفل التنصيب اختار الملك أن يُمثله رئيسا البرلمان، وقبل ذلك كان قد أبرق مُهنئا الرئيس المنتخب على فوزه، ومشيدا بنجاح الاستحقاق الرئاسي الذي يؤكد التزام الشعب التونسي الراسخ بمواصلة مساره الموفق نحو إرساء دولة الحق والقانون والمؤسسات، ومعربا عن استعداد المملكة للتعاون مع القيادة الجديدة في تونس. وفي نفس السياق المكثف سيكلف رئيس مجلس النواب بإبلاغ الرئيس الجديد، مباشرة، رسالة شفهية، وهو ما كان موضوعا لاستقبال خص به الرئيس -في أول نشاط رسمي له داخل قصر قرطاج- كل من السيدين الحبيب المالكي رئيس مجلس النواب، وحكيم بنشماس، رئيس مجلس المستشارين. قد تكون المرة الأولى التي يتم تكليف رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين، معا، لتمثيل الملك في مجريات حدث تنصيب رئيس دولة. والواقع أن هذه الملاحظة لوحدها، تعني أن الأمر لم يكن مجرد تدبير بروتوكولي عادي ورتيب في يوميات العلاقات الدولية، بل رسالة سياسية عميقة تعبر عن إرادة معلنة لإيلاء تونس مكانة متميزة ضمن الدوائر الأكثر قربا في السياسة الخارجية للمغرب. الرسالة السياسية العميقة تبدو أكثر مقروئية وبحروف أكثر نصاعة، عندما نلتفت إلى ملاحظة أخرى، لم يقف عندها كثيرون، هي أن المغرب هو البلد الوحيد الذي حضر في مراسيم التنصيب بوفد من هذا المستوى الكبير على صعيد التمثيلية السياسية. الملاحظة الثالثة -غير القابلة للإلتفاف- تتعلق برمزية حضور ممثلي المؤسسة البرلمانية المعبرة عن رسوخ الاختيار الديمقراطي المغربي، في لحظة تمثل بقوة أبرز حالات تدعيم مسلسل الانتقال الديمقراطي في البلاد التونسية. الواضح الآن أن التجاوب السريع والتلقائي مع المبادرة المغربية، دليل أكيد على أن العلاقات الثنائية المغربية التونسية -بالرغم من بعض أعطابها الطارئة- تبقى مستقرة وعميقة وقابلة للتطوير. من ذلك ما لاحظناه -من هنا بالمغرب- من حسن استقبال لدلالات الحضور المغربي في حفل التنصيب، داخل أوساط الصحافة الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، فضلا عن الحفاوة البالغة التي عبر عنها كل من الأستاذ عبد الفتاح مورو والرئيس قيس سعيّد، في مداخلتيهما خلال فعاليات أداء اليمين والتنصيب، وهما يرحبان بضيوف تونس وممثلا ملك المغرب. بالإضافة إلى ما تناقلته الصحافة من لقاء مطول جرى نفس اليوم بين أعضاء الوفد المغربي ورئيس البرلمان التونسي بالنيابة. على أن أبلغ أشكال التجاوب تجسدت في اللقاء الذي حظي به رئيسا مجلسي البرلمان المغربي من طرف الرئيس المنتخب، وهو في اللحظات الأولى لمباشرة مهامه الدستورية الجسيمة. وهو اللقاء الذي عبرت إثره رئاسة الجمهورية التونسية في بلاغ لها عن بالغ شكر وتقدير الرئيس قيس سعيّد لجلالة الملك على مبادرته بإيفاد وفد رفيع المستوى للمشاركة في حفل التنصيب، مع التعبير عن استعداد “تونس الدائم لمزيد تعزيز علاقاتها مع المغرب من خلال إيجاد صيغ وتصورات جديدة للتعاون في كافة المجالات لمواجهة مختلف التحديات وتجسيم تطلعات الشعبين الشقيقين نحو مزيد من التعاون والتكامل والتضامن”. في الواقع، سجل المغرب الرسمي حضورا لافتا في محطة تاريخية هامة داخل أطوار الزمن الانتقالي التونسي، فعل ذلك بنوع من الرغبة في التقاسم الإرادي للحظة مليئة بالرمزية في المخيال الشعبي للتونسيين. فعل ذلك كما يُصرّ الأخ على تقاسم مناسبات النجاح والتألق مع شقيقه. أما في العمق فثمة خلف هذا الحضور الوازن ما هو أبعد من قراءاته السياسية والمؤسساتية، ذلك أن الحدث في دلالاته الأصلية تعبير عن التقاء شعبين يريدان الذهاب قدما في اتجاه التاريخ، تحقيقا للرخاء والتنمية، في إطار يجمع بين الإيمان الواثق بالدولة الوطنية ومكاسبها كحاضنة للتقدم، وبين التمسك الواعي -في ذات الآن- بحلم مغاربي متجدّد.