كان العلماء الربانيون عبر التاريخ الإسلامي الطويل بوصلة الأمة، وعنوان نهضتها، وقيادة التغيير فيها، ودرع الشريعة في مواجهة دعاة هدمها، ورأس الحربة في مواجهة اعدائها.. منحهم الله عقلا واعيا، وقلبا عامرا مطمئنا شجاعا، ولسانا ذكيا فصيحا، وهيئة تُذَكِّرُ الناس بالآخرة، وتبعث في نفوس الطغاة الرهبة والهيبة.. كان محراب الصلاة، ومنبر التوجيه والتنوير، ومداد الحبر الذي يسكبون به أفكارهم في الإصلاح، وساحة الحرب والنزال، كانت كلها بالنسبة إليهم واحدة لا تتجزأ.. مداد العلماء ودماء الشهداء التقت عند اعتباهم فما خانوا هذه ولا تلك. حاجة الأمة الى هؤلاء العلماء الربانيين، في أوقات محنتها وانكسارها وتراجعها، تصبح كحاجتها إلى الماء والهواء والغذاء.. فهم الذين وصفهم الله سبحانه بقوله: “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ”، وفي قوله: “ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تُعلِّمون الكتابَ وبما كنتم تدرسون”.. ذلك أن العلماء ورثة الأنبياء يهدون الناس إلى الحق ويرشدونهم إليه، فهم منارات الهدى ومصابيح الدجى.. لولا العلماء لهام الناس على وجوههم لا يعرفون معروفاً ولا يُنكرون منكراً، مصداقا لقوله تعالى: “وجعلنا منه أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون”.. فوق ما يجب ان يتمتع به العالم الرباني من صفات لا يكون إلا بها كالإخلاص والعلم والعمل والتقوى والورع، والحِلم والأناة، والإنصاف، وحسن الخلق، والحكمة والشجاعة في قول الحق، فهو مطالب بالتزين بما يحفظ ذلك كله ويجعل صاحبه مهوى القلوب المكلومة والنفوس الجريحة، وهو أن يكون “متجردا” يطلب العلم لله لا ليماري به العلماء، أو ليجاري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أو ليُوَسَّعَ له في المجالس، وتُغدق عليه الجوائز والصلات، ويُلقى عليه هالة من التقديس فيُمدح بما ليس فيه، وان يجد له مكانا قريبا من ذي سلطان حاكما كان او محكوما.. أن يخدم الحقيقية الشرعية ولا شيء غير الحقيقة الشرعية، وأن يكون مستعدا أن يدفع في سبيلها أغلى الأثمان وإن كانت روحا تُقدم او دما يُراق.. عندها وعندها فقط يصبح العالم عالما حقا، يليق به ان يُلبَسَ تاج الوقار ليكون اماما للناس وقائدا لهم على طريق التمكين.. كانت سيرة شهيد الكلمة والمفكر الإسلامي (سيد قطب) رحمه الله ورضي عنه، تجسيدا لهذا المعنى في حياته وفي استشهاده، عندما قال: “إن كلماتنا ستبقى ميتةً لا حراك فيها، هامدةً أعراساً من الشموع، فإذا متنا من أجلها انتفضت وعاشت بين الأحياء.. كل كلمة قد عاشت كانت قد اقتاتت قلب إنسان حي، فعاشت بين الأحياء، والأحياء لا يتبنون الأموات”.. لذلك ليس غريبا أن يكون هؤلاء العلماء الربانيون كما ذكر المفكر الإسلامي عبدالرحمن الكواكبي – رحمه الله في كتابه “طبائع الاستبداد”، اكثر من يخافهم الحكام المستبدون قديما وحديثا، واكثر من يدفع الثمن في سبيل كلمة الحق، واكثر ما يتعرض لعمليات الاقصاء قتلا وسجنا وتشريدا لما يشكلونه من تهديد لعروش الظلم والظالمين، ومصدر إشعاع يحرك الأمة نحو انتزاع حقوقها وممارسة دورها الأصيل في محاسبة ومراقبة ومعاقبة حكامها إن استدعت الضرورة… في مقابل هؤلاء الذي رفعهم الرسول صلى الله عليه وسلم فوضعهم في مرتبة سيد الشهداء (حمزة بن عبدالمطلب) رضي الله عنه، حينما قال: “سيِّد الشهداء حمزة، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ، فأمره ونهاه، فقتله”، يعمل المستبد حاكما او زعيما لأي تنظيم او فئة او حزب، على تجنيد كتائب من “العلماء المطبلين” الذين كرسوا حياتهم لخدمة الباطل فباعوا دينهم بدنيا غيرهم، طمعا في مال او منصب او جاه زائف، او حسدا من عند انفسهم للعلماء الربانيين الذين قذف الله حبَّهم في قلوب الخلق فأصبحوا فيهم كالشموس المنيرة والاقمار المضيئة.. (1) دعاني الى هذه المقدمة ما تابعته في الأيام الأخيرة من مواقف وتصريحات للبروفسور احمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – خليفة العالم الجليل دكتور يوسف القرضاوي في هذا المنصب – نُشرت على موقعه الشخصي على الشبكة العنكبوتية ( http://raissouni.net// )، حول مسألتين مهمتين: الأولى، زيارة القدس والمسجد الأقصى المبارك في ظل الاحتلال الإسرائيلي. والثانية، مشاركة المجتمع العربي الفلسطيني في اسرائيل في انتخابات الكنيست.. الحقيقة ان موقف الريسوني العالم الأصولي والمرجعية في علم “مقاصد الشريعة”، لم تفاجئني بقدر ما عززت لدي ولدي الكثيرين في حركتنا الإسلامية في الداخل الفلسطيني – 1948، ولدى مؤيديها وانصارها ومحبيها، صِدْقَ ما ذهب اليه مؤسس حركتنا الإسلامية العالم الجليل فضيلة الشيخ عبدالله نمر درويش – رحمه الله ورضي عنه – من آراء إبداعية ثورية في كثير من الملفات الحساسة التي اتخذ فيها مواقف واستنبط بشأنها آراءً قد تكون خرجت في ظاهرها عن “المألوف” – وهو لا يمثل بالضرورة رأيا شرعيا، أو هو لا يمثل الرأي الشرعي المعتبر والوحيد – لكنها لم تخرج ابدا عن النظرة “المقاصدية” لشريعة الإسلام التي جاءت لتضع الحلول لكل ما يواجه المسلم فردا وجماعة في كل زمان ومكان وحال “ظرف”.. فوق ما تمثله آراء الريسوني من شجاعة يندر وجودها في زماننا هذا، فإنها تثبت أيضا حقيقة ان مؤسس حركتنا الإسلامية الشيخ درويش كان سابقا لعصره في كثير من آرائه الاجتهادية، والتي بدأ يعود اليها كثير من العلماء وإن من خلال اجتهاد ذاتي ونظرة معمقة ثاقبة، اوصلتهم إلى نفس النتيجة التي وصل اليها شيخنا قبل عشرات السنين.. إن “إباحة” بروفسور الريسوني زيارة القدس والاقصى المبارك رغم الاحتلال الإسرائيلي، وتشجيعه لمشاركة الجماهير العربية في انتخابات الكنيست، وهو الذي يقف على رأس مؤسسة تعتبر المرجعية العليا للعلماء الربانيين، والممثل الشرعي الوحيد لحركات “الإسلام السياسي” في العالم، تعتبر قفزة نوعية شجاعة تستحق الوقوف عندها والتأمل فيها، خصوصا وأن الريسوني لم يصل اليها ولم يتحدث عنها علانية إلا بعدما وصل فيها الى “عين اليقين”، ولم يُصدر فيها رأيا إرضاء لحاكم او تنظيم أو حركة هنا او هناك، بل خدم فيها الحقيقة الشرعية التي يراها أقرب إلى خدمة مصالح المسلمين وقضاياهم من غيرها.. لو لم يكن لهذه الآراء “الثورية” للريسوني سوى انها أخرجت النقاش في هاتين القضيتين المفروضتين على أجندة المهتمين بقضايا الإسلام والمسلمين في كل امكان تواجدهم، من دائرة الجمود الذي أدى إلى شرخ غير محمود في صف المكافحين من اجل إحياء المشروع الإسلامي، إلى دائرة الحراك الفكري والحيوية الاجتهادية، فلم تعد محكومة بمعادلات “الحرام” و “الحلال”، وإنما تحتكم الى “ادوات الاجتهاد المرتبطة بمصالح الامة المرسلة”، والتي أخذ بها الشيخ عبدالله درويش منذ عقود، لكفى الريسوني ذلك فخرا استحق به منا الشكر والعرفان.. (2) ليس هدفي في هذه المقالة “تجنيد” آراء وفتاوى بروفسور الريسوني لخدمة وجهة نظر حركتنا الإسلامية في القضيتين المطروحتين، فقد تجاوزنا ذلك منذ امد بعيد، وإنما هدفي أنني وجدت في هذه المناسبة فرصة للحديث باقتضاب عن العالم الرباني الريسوني والبيئة الفكرية التي نشأ فيها، وربى في فضائها أجيالا رضعوا فقها تحتاج اليه أمتنا في هذه الحقبة من الزمان كحاجتها للهواء، من اجل فهم قضاياها، واستنباط الحلول المناسبة لمشكلاتها المعقدة في ظل خريطة فكرية وجيوسياسية يحار العقل الحليم في الإمساك ببدايتها ناهيك عن نهايتها.. ولد الريسوني في عام 1953 في المغرب، وتلقى تعليمه في مدارسها وجامعاتها، حيث حصل على الدكتوراة في أصول الفقه عام 1992. عمل أستاذا لعلم أصول الفقه ومقاصد الشريعة في الجامعات المغربية والعربية، وأشرف على أكثر من مائة أطروحة دكتوراه وماجستير في مختلف الجامعات المغربية.. عضو مؤسس لاتحاد علماء المسلمين، قبل ان يتم انتخابه رئيسا للاتحاد خلفا للدكتور يوسف القرضاوي في العام 2018.. شغل الى جانب مناصبه الاكاديمية والعلمية مناصب سياسية، حيث رأس حركة التوحيد والإصلاح المغربية بين الأعوام 1996 و – 2003، وهو عضو في حزب العدالة والتنمية المغربي، كما قدم العديد من البرامج والحلقات التلفزيونية في كبريات الفضائيات العربية والأجنبية.. له عدد كبير من المؤلفات النوعية التي ترجم اكثرها للغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية، تشكل كلها علامات فارقة في عالم الفكر الإسلامي، وأضافت إضافات نوعية للمكتبة الإسلامية والإنسانية، وقدمت الإسلام بحلة قشيبة كشفت عن جوهره الأصيل الذي سعى المستعمر وعملاؤه في عالمنا العربي والإسلامي الى تشويهه خدمة لأهداف أعداء الامة، وسعيا الى إجهاض اية محاولة للنهوض بها.. (3) لا أستطيع في مقال قصير كهذا الحديث عن الكثير من الاحداث التي شكلت وعي الشيخ الريسوني، الا أنني اكتفي بعرض ما قاله بنفسه جوابا على أحد السائلين في نهاية واحدة من محاضراته التي نشرها في كتاب تحت عنوان “محاضرات في مقاصد الشريعة”، الجواب الذي أرى أنه يفي بالغرض ويقدم الرسالة التي لا شك عندي كانت من العوامل التي اوصلته الى اصدار ما أصدر في مسألتي زيارة القدس والأقصى في ظل الاحتلال الإسرائيلي ومشاركة فلسطينيين الداخل في انتخابات الكنيست.. “سؤال: لم يكن العلماء المتقدمون معزولين عن قضايا عصرهم ومجتمعهم وكانوا في قلب الحدث.. نحن من خلال هذه المحاضرة تعرفنا عليك عالما، نريد ان نتعرف عليك سياسا؟ الجواب: أولا انا لست سياسيا بالمعنى الذي يُفهم، طبعا نشأت في العمل الدعوي وشغلت فيه مواقع متعددة، منها رئاسة حركة التوحيد والإصلاح لسبع سنوات، وما زلت عضوا في مكتبها التنفيذي، وانا عضو في حزب العدالة والتنمية بالمغرب، وهذا كله يعتبر عملا سياسيا.. لي أيضا مشاركات وآراء ومواقف، وقد تُصنف كلها في دائرة السياسة والعمل السياسي، لكنها بالنسبة إليَّ فكلها عمل إسلامي وكفى..”.. وتابع: “… مشكلتي أنني لا أمارس السياسة، ولا أخضع للسياسة، ولا اتصرف ولا أتكلم وفق متطلبات السياسة، لأن السياسة عندهم أن تتكلم في قضايا الحكم والاحتلال وشؤون الامة، وأن نتقد وتعارض وتناهض. هذه عندي ليست سياسة، هي عندي الشريعة ومقاصد الشريعة وقول كلمة الحق.. السياسة عندهم هي ان تسكت عن هذه القضايا وتتحاشاها، أو تتكلم فيها بما يقتضيه سوق السياسة، فهؤلاء العلماء لهم سياسة ويمارسون السياسة خوفا وطمعا، حفاظا على مناصبهم ومواقعهم وسلامهم، أهذه سياسة؟ وأَجْمَلَ بالقول: “… أنا ما أجده في الشرع فأقوله، فأنا حينئذ لا أمارس السياسة، أنا أمارس الشرع وأقول بالشرع.. فالحقيقة أن العلماء أينما كانوا – من هنا الى الرباط الى جاكارتا مرورا بالأزهر – الذين لا يتدخلون في السياسة، إرضاء للسياسة، هم أصحابُ مخالفةٍ للشرع، هذه سياسة لا شرعية، سياسة مخالفة للشرع.”.. انتهى.. السياسة في نظر الريسوني ان تقول كلمة الحق بناء على ما تفهمه من مقاصد شريعة الإسلام، لا بهدف إرضاء حاكم او دغدغة مزاج عام حتى وإن مثل هذا المزاح تيارا داخل الصف الإسلامي الحركي.. (4) يلخص بروفسور الريسوني نظريته في “مقاصد الشريعة” كما جاء في كتابه “مدخل الى مقاصد الشريعة”، بقوله: “.. ومما يجدر التنبيه عليه في هذا السياق: أن تفسير النصوص الشرعية يتجاذبه عادة اتجاهان: اتجاه يقف عند ألفاظ النصوص وحرفيتها، مكتفيا بما يعطيه ظاهرها، واتجاه يتحرى مقاصد الخطاب ومراميه، ويستند هذا الاتجاه إلى التسليم العام بكون الشريعة ذات مقاصد وحكم مرعية في عامة أحكامها، فيعمد أصحاب هذا الاتجاه عند النظر في أي نص شرعي، إلى استحضار تلك المقاصد والحكم، وأخذها بعين الاعتبار في تحديد معناها المقصود”… (ص 11).. ويقول في موضع آخر من الكتاب مؤكدا على أهمية النظرة “المقاصدية”، بقوله: ” إذا كانت المقاصد أرواح الأعمال كما يقول الامام أبو اسحق الشاطبي رحمه الله، فإن العجب كل العجب ان يعيش الناس بلا مقاصد، أي بلا أرواح، فالفقه بلا مقاصد فقه بلا روح، والفقيه بلا مقاصد ففقيه بلا روح، إن لم نقل: إنه ليس بفقيه.. والمتدين بلا مقاصد متدين بلا روح، والدعاة إلى الإسلام بلا مقاصد هم أصحاب دعوة بلا روح.”.. (ص 16).. انتهى.. أَعتبرُ نفسي من القراء النَّهِمين في إنتاج المفكرين المغاربة والشمال أفريقيين عموما، وفي فكر (بروفسور احمد الريسوني) و (الدكتور أبو زيد المقرئ الادريسي) وغيرهم خصوصا، واللذين كنا التقينا بعدد منهم في زيارة وفد الحركة الإسلامية قبل بضع سنين إلى المغرب، حيث وقفنا على حقيقة مواقفهم مما يجري في فلسطين وفي العالم العربي والإسلامي والمجتمع الدولي، ولمسنا عمق تحليلهم “المقاصدي” لأوضاع الأمة عموما ولأوضاع الأقليات العربية والمسلمة في المجتمعات غير المسلمة ومنها في إسرائيل، ومدى قربه مما وصلنا اليه نحن هنا في فلسطين الداخل من نتائج نمارسها على الأرض منذ سنوات طويلة… لا شك عندي في ان هذه المدرسة التي يمثلها الريسوني هي أقرب المدارس إلى روح العصر، وبذلك تكون أقدر المدارس على وضع الحلول الشافية للكثير من القضايا الخلافية على الساحة العربية والإسلامية وساحتنا هنا في الداخل من المنظور الإسلامي.. هل ستكون “فتوى” الريسوني في المسألتين: زيارة القدس والأقصى في ظل الاحتلال الإسرائيلي والمشاركة في انتخابات الكنيست في إسرائيل، بداية هذا التحول؟ من المفيد هنا التأكيد منعا لأي شك يمكن ان يتسرب، خصوصا وان هذه الفتاوى تأتي في وقت حساس وحرج جدا على المستويات الداخلي والفلسطيني والإقليمي والدولي، والذي يعيش فيه العرب والمسلمون أكثر مراحل تاريخهم انهيارا، مما انعكس سلبا على فلسطين وقضيتها وفي القلب منها القدس والاقصى المبارك.. الحقيقة التي لا يرقى اليها شك عندي ان الريسوني اخذ كل ذلك بعين الاعتبار، وجعله “علة” لفتواه التي جاءت لوضع حلول لوضع مرحلي (استضعاف) لا بد سيسبق مرحلة التمكين في يوم يقدره الله تعالى… ولنا في سيرة النبي الاكرم صلى الله عليه وسلم ما يسند هذا المعنى ويعلل أسبابه.. * الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني