الحقيقة وثلاث خيارات: ويبقى النقد مدرسة، شاء من شاء وأبى من أبى ، نقوم بها بحثا عن الحقيقة ، وانتصارا للصواب من وجهات نظر مختلفة ، هو عملية تفكير خارج المألوف ، وخارج الصندوق. كثيرا ما نتعرض بسببه للأذى، ونصبر عليه صبرا جميلا. وبعد حملة الإساءة – التي لا أدري سبابا لها ، ولا من وراءها – قررت أن أستمر في عملية نقدي للتجربة السياسية للأستاذ عبد الإلاه ابن كيران بدافع رصد عملية تحول يعيشها في الآونة الأخيرة ، ليس بنية الإساءة إليه كما يروج البعض ، بل إسهاما متواضعا مني في تحليل سلوك سياسي أسال الكثير من الأقلام ، وفتح الباب على العديد من التحليلات والتأويلات ، وهذه المقالات من ضمنها. ونظرا لردود الفعل التي خلفتها مقالاتي السابقة ، بين مؤيد ومعارض ، والجدل الذي تسببت فيه، ونظرا لحجم التوتر والضغط الذي جاء من وراءها ، فإني قررت القفز على مجموعة من المحطات التي عرفها الحزب ، وأقف عند آخر محطة والمتمثلة في إعفاء الأخ ابن كيران وتعيين العثماني ، مقدما وجهة نظر متواضعة حول أسباب وخلفيات ما وقع ، وتحليلها ، وكيف أثر كل ذلك على الأستاذ ابن كيران ، مقدما مقترحا من أجل الخروج من هذا الاحتقان غير المبرر وتوقيف هذا النزيف الأليم. وكما سبق أن قلت إبان المحنة التي عاشها الحزب أثناء تأسيس حكومة ما بعد نتائج 7 أكتوبر بزعامة الأستاذ ابن كيران، أن ما يعيشه الحزب من تضييق وعرقلة ممنهجة كان بسبب الإنجازات التي حققتها الحكومة بقيادة العدالة والتنمية ، وكذا شعبية ابن كيران في نهاية ولاية الحكومة وأثناء الحملة الانتخابية التي دكت معاقل وحصون الأصالة والمعاصرة رغم دعم الدولة العميقة له بكل الوسائل الظاهرة والخفية.. هذه الشعبية والقدرة التواصلية التي كان لها دور مهم في نجاح الحزب ، لقد قلت هذا الكلام في إبانه ، ومازلت أؤكده وأتبناه. ولكن رغم ذلك ، ونظرا لكون الحزب ما يزال يعيش وضعية سياسية وتنظيمية صعبة، ويعاني من ارتجاجات تأسيس حكومة العثماني والمؤتمر الثامن للحزب، مازلت أرى ضرورة للقيام بدور النقد وتسجيل الملاحظات علها تساهم في تدارك الأخطاء السياسية وتفادي الوقوع فيها مستقبلا، مادمنا بصدد ممارسة العمل السياسي الميداني الذي يناسب معه إدارة الأزمة وتغيير الخطط وفق رؤية واقعية تحافظ على استقرار الوطن، وتحفظ للحزب وحدته التنظيمية وشعبيته السياسية وحضوره القوي في المشهد السياسي حاضرا ومستقبلا. وعندما أتحدث عن النقد ، فلابد من قبول إثارة نقط سلبية وحرجة، ربما كانت سببا في بعض المشاكل السياسية والأزمات التنظيمية، أبسُطُها بروح الإصلاح ونفس الوحدة .. وفيما يلي جملة من الأخطاء التي ساهمت أو كانت سببا في الأزمة الحالية: 1- المؤتمر الاستثنائي قصد التمديد لابن كيران: إن عقد مؤتمر استثنائي قصد التمديد لإبن كيران ليستمر أمينا عاما للحزب حق من الحقوق الخاصة بالحزب التي تكفلها له القوانين، وفق رؤيته الحزبية والسياسية. هذه الرؤية التي وضعت نصب عينيها انتخابات 7 أكتوبر ونتائجها، حيث أراد الحزب من خلال إبقاء ابن كيران أمينا عامة استثمار شعبيته وخطابه وقدرته التواصلية مع الناس، وقدرته التواجهية مع حزب الدولة العميقة الأصالة والمعاصرة، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى كان الحزب متأكدا من فورزه في هذه الانتخابات بالمرتبة الأولى ، وبالتالي فإن الملك ملزم بتعيين ابن كيران مرة أخرى رئيسا للحكومة، في إطار إعمال المادة 47 من الدستور والتأويل الديمقراطي له. لقد كنت من الداعمين لهذا الطرح والمتحمسين له بقوة دون قراءة شمولية واقعية للمشهد السياسي المغربي المعقد والمركب. وفعلا لقد نجح الحزب في هذا الاستحقاق نجاحا باهرا، وأبان عن قدرة تنظيمية وتعبوية متفردة فاقت كل التوقعات، رغم جميع المضايقات والعراقل التي رافقت العملية الانتخابية. إلا أن الدوائر الرسمية كانت لها قراءة أخرى لعملية التمديد تلك، وتعاملٌ آخر مع مخرجاته ونتائج 7 أكتوبر بمنطق مغاير. فمن أهم التقاليد السياسية المغربية في مجال التعيينات الحكومية هي أن ملك البلاد من “يتنعم” على أحد رعاياه بتعيينه وزيرا في حكومة، لا أن “يفرض عليه”. فالفصل 47 من دستور المغرب يحدد رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات البرلمانية، ولم يقل رئيس ذلك الحزب. بمعنى أن للملك حق تعيين أي عضو من ذلك الحزب ( هكذا بالمطلق ) ولكن سياسيا وديمقراطيا وبرتوكوليا تبقى أهمية أن يكون ذلك الشخص المعين له صفة قيادية ، أهمها وأكثرها قبولا هو قائد الحزب. والملك لم يخرج عن هذا التقليد، بل احترمه بالحرف، وتم تعيين ابن كيران رئيسا للحكومة في إطار التنزيل الديمقراطي للدستور ، ولكن من الناحية البرتوكولية والسياسية وتقاليد وأعراف المملكة، لا نفرض على الملك من يجب أن يكون وزيرا أو رئيسا للحكومة، وهذه هي الرسالة التي وصلت الدوائر الرسمية من خلال التمديد؛ بمعنى لا نريد إلا ابن كيران ونرفض غيره، والدوائر الرسمية ومن يدور في فلكها قالت بلسان الحال : مادمتم بتلك القوة والثقة بالنفس ، هيا شكلوا حكومتكم كما شئتم … للأسف لقد دخل الحزب دون وعي منه ودون رغبة في ذلك في لعبة اليد الحديدية bras de fer مع المخزن ، علما أن موازين القوى غير متكافئة ، فكانت رسالة قوية وواضحة مفادها أنه لا شيء يتحرك في الشأن السياسي الحكومي دون إرادة المخزن وهندسته ، وباقي النتائج معروفة. وبجملة واحدة ، رسالة التمديد قرأتها الدوائر الرسمية على أنها عملية فرض شخص باستغلال الآليات الديمقراطية… ضمن بيئة سياسية لم تتعايش بعد مع هذا النموذج ولم تستقر على شكل معين. إنها رسالة صحيحة في الزمن الخطإ. 2- خرجات ابن كيران الإعلامية : من المعروف عن الأستاذ عبد الإلاه ابن كيران عفويته في الكلام وسجيته في التعبير ، دون تكلف أو تصنع، ولا تهم الوسيلة التي يوصل بها فكرته، قد يكون كلاما مباشرا قويا إلى درجة الخشونة، وقد يكون كلاما على سبيل النكتة ( الهادفة ) التي تدخل السامع في نوبة من الضحك مع إدخال المتعة في قلبه والإقناع في عقله، وقد يكون كلاما سهلا بسيطا يحمل قدرا كبيرا من العاطفة، وفي كل ذلك لا يمكن أن أشهد له إلا بصدق النية وسلامة الطوية .. ولكن في الوقت ذاته لا يمكن أن نتجاهل البعد السياسي لتلك التصريحات وعلاقاتها بالمعادلات السياسية المعقدة التي تتكون من عدة مجاهيل تتجاوز المعادلة من الدرجة الأولى وحتى الثانية.. تلكم التصريحات التي صدرت عنه إبان رئاسته للحكومة الأولى أو الثانية، والتي خضعت لتحاليل مخبرية دقيقة من أجل الكشف عن مكوناتها الفكرية وتفاعلاتها داخل المشهد السياسي العام ، وتأثيرها على الشارع والفاعلين السياسيين… كل شيء يخضع للحسابات والتحاليل الدقيقة، كل من جهته وزاوية نظره وخلفيته السياسية والإديولوجية والأمنية .. وسأقدم بعض التصريحات ( على سبيل المثال لا الحصر ) التي كانت كان لها وقع كبير – في نظري – وخرجت عن بروتوكل دار المخزن: ” أنا ممطلوبش مني الرضا ديال جلالة الملك ، ديال الله لي خلقني والواليدة ديالي ” “من لي كنت خدام مع الملك ” فأما التصريح الأول وأمثاله فلن يمر دون دراسة وتحليل مخزني ، مع وضع استراتيجية للتعامل معه.. فهو من جهة تصريح يكتسي جرأة وشجاعة انعدم نظيره في هذا الزمن السياسي، وتصريح صحيح من حيث المضمون ، حيث إن رضا الله هو المطلوب شرعا ورضا الأبوين اجتماعيا في المعروف ، ولكنه – في نظري المتواضع – خطأ من حيث الزمن والموقع؛ فالتقاليد المرعية لدار المخزن لها رؤية أخرى لهذه التصريحات ، هذه التقاليد الضاربة في أعماق تاريخ الملكية المغربية المحافظة ، والمتميزة بالصرامة والانغلاق ، والقائمة على ترسيخ هذه التقاليد في جميع المناسبات الرسمية وغير الرسمية كمكون أساسي في بنية الملكية الثقافية والسياسية بشكل لا يجوز الخروج أو التطاول عليها ، فهي التي تحفظ للملكية هيبتها وسموها شعبيا وسياسيا، وللمزيد من الفهم أنصح بقراءة رواية ” ربيع قرطبة ” لصاحبه حسن أوريد. فمن حيث الزمن السياسي، فإن المرحلة لا تحتمل هذا النوع من الخطاب الموجه إلى القصر ، لا على مستوى النضج الشعبي فكريا وسياسيا، ذلك أن التأطير السياسي للشعب ما يزال دون المستوى المطلوب لتقبل وتبني والدفاع عن هذا الخطاب، ولا على مستوى قوة الحزب وعلاقته بالعمق الشعبي ( في نظري ما يزال الحزب يطفو على أرضية رخوة )، أو تموقعه في مراكز القرار السياسي، فما يزال يعيش على الهامش القرارات الكبرى ( العلاقات الخارجية ، قضية الصحراء المغربية ..) ، أو على مستوى قدرته وامتلاكه لعناصر القوة اللازمة للتفاوض ووضع شروطه. أما على مستوى الموقع الذي يحتله الأستاذ ابن كيران بصفته رئيسا للحكومة ورجل دولة، فيلزمه بالأخذ بواجب التحفظ في تصريحاته ، سواء كانت تصريحات سياسية أو غير سياسية، فعلى ما أعتقد أن عفويته وتلقائيته كانت على حساب البروتوكول الصارم الذي يجب أن يتقيد به بصفته تلك، ولا يجب أن يخرج عنه، وهذا البروتوكول يشكل أولوية قصوى في الأعراف والتقاليد المخزنية وحتى الدولية.. وإن كان هذا الأسلوب من العفوية قد أمتع الشارع المغربي ، وأخرجه عن النموذج النمطي التقليدي المتوالي على الحكومات المغربية، من حكومة عبد الله ابراهيم والبكاي إلى حكومة اليوسفي والفاسي… فإنه – وحسب رأيي – قد أفسد العلاقة بين ابن كيران والدوائر الرسمية الحريصة على استمرار هذه التقاليد وترسيخها. وأما التصريح الثاني ( من لي كنت خدام مع الملك )، فرغم بساطة الكلام ، فربما اعتبرته الدوائر الرسمية على أنه تطاولا وندية لا تستقيم ضمن النسق المخزني الذي فصلته أعلاه، وخروج عن الاحترام الواجب للملك، ذلك أنه لا أحد يعمل مع الملك ، بل كل ” رعاياه ” يعملون ” عنده” وتحت إمرته وتوجيهاته السامية .. هذا هو المعمول به والمتعارف عليه .. وغير ذلك من التصريحات التي قد تبدو بسيطة لدى البعض، وشجاعة وجديدة لدى البعض الآخر ، ولكن دوائر أخرى تقرؤها قراءة مختلفة تماما عن قراءتنا السطحية البسيطة. 3- منهجية التعامل مع أزمة تشكيل الحكومة: لا يمكن أن ينكر متتبع موضوعي أن المنطق الديمقراطي يقتضي أن يمنح حزب العدالة والتنمية حق تشكيل حكومة من أغلبية تتوفر على الحد الأدنى من الانسجام وعدد معقول من الأحزاب . هذا هو المنطق البسيط في عالم الديمقراطيات التي تحترم إرادة الناخبين وعقول المواطنين ويحفظ مصلحة البلاد والعباد. ولكن اتجه المنحى السياسي إلى منحى غير المنحى الديمقراطي، وتدخلت أيادي الضبط والضغط من أجل تقويض هذه التجربة الفتية خدمة لبعض الدوائر المخزنية التي لا ترضيها النتائج الجيدة التي حققها الحزب والنجاحات الكبيرة في جميع محطاته الانتخابية ، وكذا شعبية ابن كيران المتصاعدة باستمرار والمتجذرة باقتدار. فأدخل الحزب مكرها إلى لعبة شد الحبل، وتم تكليف عزبز أخنوش للعب دور العرقلة السياسية، بعد أن فشل حزب الأصالة والمعاصرة فشلا ذريعا في ذلك، ومارس أدوارا غاية في السوء ، إلى درجة أنه أراد أن يلعب دور رئيس الحكومة الفعلي بفرض حزب ورفض آخر . أخنوش هذا الذي دخل الحكومة السابقة بعد خروج حزب الاستقلال ، كان ابن كيران أكثر تشبتا به ، وأكثر ثناء عليه ، حتى كان يصفه ب ” ولد الناس ” ، ولكن بعد العرقلة التي تكلف بها أصبح في نظره ” شناقا ” ، وأصبح أكثر تهجما عليه ، وأكثر سخرية منه ، فبين ” ولد الناس ” و ” شناق ” تحول كبير ليس من الصواب القفز عليه دون تحليل وفهم له . لقد وقع ابن كيران في تشنج كبير غير معهود ، وغير مبرر سياسيا ، ذلك أن الأسلوب الهجين الذي طُلب من أخنوش لعبه من أجل عرقلة تشكيل الحكومة وفرض الاتحاد الاشتراكي عليه، جعل ابن كيران أكثر راديكالية في التعامل معه، حتى أنه أقسم في أحد اللقاءات بعدم دخول الاتحاد الاشتراكي الحكومة وإذا دخل فإن ابن كيران ” ماشي راجل ” . هذا التحدي الغريب هو أبعد نقطة يمكن أن يصل إليها سياسي في تدبير أزمة سياسية ، كيفما كان نوعها ، لقد أدخل ذاته وشخصه في تحد هو في غنى عنه . عندما تصبح الذات جزء في الصراع السياسي ، والقسم عنصرا في المفاوضات ، والتحدي النفسي أسلوبا في التدبير ، فعلى صاحب ذلك المنهج انتظار الهزيمة ، والسبب ببساطة شديدة ، أن موازين القوى السياسية ليست في صالحه، وذلك الأسلوب المتشدد لن يؤدي إلى أي نتيجة مفيدة. إن تقدير القوة وضبط الانفعال والتحلي بالمرونة وتنسيب الأمور والحفاظ على شعرة معاوية هي من أبجديات العمل السياسي وقواعده الأولى والبسيطة، فكيف غفل ابن كيران عن ذلك ؟ فدخل حزب الاتحاد الاشتراكي الحكومة وأعفي ابن كيران من رئاسة الحكومة، لقد دخل حزب لشكر بطريقة سيئة جدا ، ولكنه دخل أخيرا !! 4- غموض في الرؤية : الكثير من الناس ، وخاصة منهم الشباب معجبون بخطاب وأسلوب ابن كيران ، نظرا لبساطته وسهولته وقربه من قلوب الناس وعقولهم، ولكن عندما نضع هذا الخطاب في اختبار سؤال المنهج والكيفية، يتضح للمرء أن ذلك الخطاب يفتقد للرؤية والمنهج، وكمثال بسيط على ذلك ، كلمته الأخيرة في الملتقى 14 لشبيبة العدالة والتنمية، حيث قال كلاما في منتهى الشجاعة والجرأة السياسية التي لا يسعني إلا أن أحييه عليها، عندما قال ” نحن لا نتفق دائما مع جلالة الملك ” ، فرغم القوة التي يحملها هذا الكلام والشجاعة التي يتميز بها ، إلا أنه لم يعطنا إجابة على الأسئلة التالية: _ ما هي الأمور التي لم يتم الاتفاق عليها ( في إطار الوضوح مع الشعب كما ينادي به ابن كيران )؟ _ ما هي حدود “عدم الاتفاق ” بين رئيس الحكومة والملك؟ _ في حالة عدم وصول ” عدم الاتفاق ” إلى أي نتيجة فكيف يجب تدبيره ؟ وهل هناك جهة يلزم الاحتكام إليها بشكل مؤسساتي ؟ فلا يكفي القول ” إننا لا نتفق دائما مع جلالة الملك ” بل لابد من توضيح حول كيفية تدبير هذا الأمر ضمن رؤية سياسية مؤسساتية واضحة. 5- التصعيد في اللهجة والخطاب: حيث ارتفعت حدة لغته النقدية للوضع السياسي بشكل يبدو أنه خرج عن السيطرة ولم يعد متحكما فيه. ففي الوقت الذي كان يعاتب بعض أعضاء الحزب على بعض خرجاتهم وتصريحاتهم السياسية، مثل أفتاتي الذي كان يقول له إن تصريحاتك التي لا تلقي لها بالا عندما تقولها ، فأنا ( ابن كيران ) من يؤدي ثمنها أمام الدوائر الرسمية وتضعني في مواقف حرجة أمامهم ، وكان يطلب منه التخفيف من تلك الحدة والكف عن الانتقاد العنيف، نجد ابن كيران الآن وخلال هذه الفترة يسير على خطا أفتاتي حدة وتصعيدا ، مما يتسبب لوزراء الحكومة خاصة العثماني في حرج كبير ، أكبر مما كان يقع فيه ابن كيران مع أفتاتي ، فهذا ليس أفتاتي بل رئيس سابق للحكومة ، فيكون الحرج بليغا ومضاعفا. فهل كان غياب المرحوم عبد الله بها عن حياة ابن كيران إحدى أسباب هذا التصعيد المفاجئ، ذلك وكما هو معلوم أن بها رحمه الله كان له دور كبير في ضبط إيقاع ابن كيران وتحديد سرعته وتهذيب لهجته وكبح جماحه أحيانا، لقد كان للفقيد دور مهم في لعب دور التوازن الفكري وأحيانا النفسي لرفيق حياته ، وكذا مقاسمته الضغوطات والتحديات التي يتعرض لها ، حيث كان ينقسم ذلك على عقلين وقلبين فيخف الحمل، فهل أصبح الحمل يقع على ابن كيران وحده؟ 6- الحقيقة وثلاث خيارات محتملة لحل الأزمة: إن واقعة إعفاء ابن كيران من مهمته كرئيس للحكومة ، وبتلك الطريقة المهينة ، لم تكن سهلة عليه وعلى الحزب برمته، بل أعتقد أن وقعها النفسي كان بليغا وعميقا جدا، فهو الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجل بناء جسور الثقة بين الحزب والقصر عبر سنوات طوال شاقة ، عانى فيها ابن كيران صعوبات ووليلات واتهامات وخصومات … لم تكن سهلة بتاتا.. إنها تضحيات جسام لا ينكرها إلا جاحد ، ونجاحات لن يعترف بها إلا جاهل .. وفعلا استطاع ابن كيران – كما وضحت في العديد من المناسبات – الوصول إلى مسعاه بأن تكون الحركة الإسلامية جزء من المشهد السياسي الرسمي متمثلا في حزب سياسي، وأصبح حزب العدالة والتنمية قائدا للحكومة مرتين ، الأمر الذي لم يتحقق لأي توجه إسلامي في الوطن العربي ، كان ذلك بفضل الله ومجهودات ابن كيران وإخوانه لما يزيد عن 38 سنة.. لقد كان هدف الاندماج في المشهد السياسي هدفا مهما وقد تحقق بحمد الله، ولكن كان إلى جانبه هدف لا يقل أهمية عليه، هو أن تثق الدوائر الرسمية في هذا المكون الرئيسي والأول حاليا، وتقبل به كباقي المكونات باختلاف توجهاتهم ومشاربهم.. فهل تحقق ذلك كما كان يتمنى ابن كيران ويجتهد من أجله؟ أم أهدر الوقت والجهد دون طائل أو نتيجة تذكر وأخفق في الوصول بالمشروع إلى محطته النهائية ؟ لذلك – في نظري المتواضع – أن تصعيد ابن كيران في لهجته وخطابه هو تعبير عن صدمة عاطفية من جراء الإعفاء المفاجئ ( بدل أن يبادر هو في طلب الإعفاء )، وانفعال غير عقلاني امتزج فيه السياسي مع النفسي ، خاصة مع غياب عنصر توازن مهم وهو بها رحمه الله . هذا التعامل العاطفي لابن كيران مع حدث سياسي كانت له انعكاسات سياسية وارتجاجات تنظيمية على الحزب . وبالتالي تفسير ما يقع لابن كيران هو إنكار لكل التضحيات التي قدمها من أجل ردم الهوة بين الدوائر الرسمية والحركة الإسلامية، وتجاهل لكل الإنجازات والنجاحات التي قادها في ظل حكومته وتحققت لفائدة المغرب ، وجحود للخدمة التي قدمها للوطن إبان حركة 20 فبراير … ولطالما كان يذكر بذلك عندما يشتد التضييق عليه وعلى الحزب . ولكن في المقابل ، هذا الإعفاء جعل منه موضوع تعاطف الكثيرين ، خاصة الشباب منهم ، ومحط إعجاب وتقدير ، وعلى ذكر كل لسان ، ويستقبل استقبالات حارة أينما حل وارتحل، لقد جعل منه هذا الإعفاء زعيما وطنيا في هذا الزمن ، وهي منة ومنحة إلاهية لا تعطى لأي أحد.. إنها لحظة سياسية حرجة ودقيقة ولا تتكرر دائما ، فهل أجاد ابن كيران استثمارها ؟ وأمام حالة الاحتقان التي تخيم على الفضاء السياسي، وتهيمن على الشأن الداخلي للحزب تظهر في الأفق ثلاث خيارات كبرى قد تكون سببا للخروج من النفق المسدود والوصول إلى الخلاص المنشود : فأما الخيار الأول : هو أن يجلس قادة الحزب وحكماؤه وفضلاؤه على مائدة الحوار الواضح والكاشف والصريح، والذي يجب أن يفظي بالضرورة إلى عودة ابن كيران إلى حضن إخوانه، ويعملون جميعا جنبا إلى جنب كما في السابق وأحسن، بعد أن دخلت هذه التجربة القاسية إلى السجل التاريخي للحزب، والاستفادة من دروسها حلوها ومرها. فلا يمكن ولا يجب أن تؤثر 6 أشهر من الأزمة العابرة على أكثر من 456 شهرا من العمل المشترك ، والتضحيات المشتركة ، والحب المشترك، هل يعقل أن تهزم نصف سنة من الخلاف 38 سنة من الاتفاق؟ أجد أن أحسن حل هو أن يجتمع قادة الحزب من أجل العودة المشتركة القوية لتصدر المشهد السياسي من جديد، ولا يتركوا ابن كيران يسبح وحده في بحر لا يعلم له شاطئ. والخيار الثاني: أن يبقى ابن كيران متشبثا بأسلوبه الجديد، خطاب حاد ، ولغة متشددة ، وإغلاظ القول في حق محيط الملك بالواضح أحيانا ، وبالتلميح أحيانا أخرى ، في سابقة لم يعرفها العمل السياسي المغربي من قبل.. وإن من شأن هذا الخيار أن يزيد من تأزيم الوضع السياسي بالمغرب، وتعقيد الوضع التنظيمي داخل الحزب ووضع هذا الأخير من خلال وزراءه في موقف ضعيف أمام الدوائر الرسمية. فلا أعتقد أن ابن كيران من خلال خبرته وتجربته الطويلة سيغيب عنه أن هذا التصعيد يشكل حرجا لقيادة الحزب، وقد يكون مطية وفرصة للمزيد من الضغط عليه وانتزاع الكثير من التنازلات المجانية من أجل نزع فتيل التوتر مع السلطة، وخضوعه للابتزاز السياسي وما إلى ذلك. وحتى إذا أراد ابن كيران أن يحافظ على هذا الأسلوب – وذلك حقه المطلق -، فلابد أن يضع مسافة معقولة بينه وبين الحزب ، يبقى فيها زعيما سياسيا وطنيا فوق الأحزاب والتنظيمات ، ولا تحسب تصريحاته على الحزب حتى لا يؤدي ثمنها هذا الأخير وتزيد من إضعافه .. وأخيرا الخيار الثالث : وهو الأسوأ الذي يجب تفاديه وتحريم الوصول إليه، ويجب التنبيه إليه في الوقت المناسب نظرا لخطورته وأضراره التنظيمية والسياسية؛ فإذا استمر ابن كيران في تصعيد لهجته ، وتهييج الشارع والشباب الغاضب والمتحمس، واستمرار نقد الوضع العام بهذا الأسلوب ، وتخصيص المحيط الملكي بشكل خاص دون اعتبار للظرفية السياسية ووضع الحزب الحالي والإكراهات التي يعيشها، ودون تنسيق وتشاور مع قياداته الذي حملت معه هم هذا العمل لعقود طويلة، من شأن ذلك أن يعمق الأزمة بينه وبين الدوائر الرسمية إلى حد تصعب معه الرجعة، ويزداد الضغط على الحزب الأمر الذي قد يزيد من تأزمه والتفكير في الخلاص وتخفيف الضغط بأي ثمن وبأي طريقة ، قد تكون قسرية وأليمة للجميع، ويصبح ابن كيران لا هو مع الحزب الذي ساهم في تأسيسه وبناءه وعاش معه كل لحظات النجاح والنصر ، وتقاسم مع إخوانه لحظات الفرح والسرور ولحظات الألم والضغط، ولا هو مع القصر الذي سعى طوال هذه السنوات من أجل بناء الثقة معه والتعايش ضمن مؤسسات الدولة الدستورية والسياسية. لذلك ومن واجب المسؤولية والنصح ، فإني أناشد جميع قيادات الحزب وعلى رأسهم الأستاذ عبد الإلاه ابن كيران أن يعود إلى حضن إخوانه المفعم بالمحبة والصدق والإخلاص المتبادل ، يبادلهم المشورة ، ويقاسمهم النصيحة ، ويشاركهم العمل ، وعلى القيادة مثل ذلك ، حتى يصل الجميع إلى المحطة الآتية بقلب واحد ، وهدف واحد ، وقطع الطريق على المتحاملين والمتربصين الذين يعملون بالليل والنهار من أجل إجهاض تجربة الحزب الرائدة وإعاقة مسيرته، وزرع الفتنة داخله من أجل تمزيقه والإجهاز عليه ، ولا تقوم له قائمة في المستقبل . قد يكون كلامي مرا على البعض وقاسيا على البعض الآخر ، وقد يراه البعض تحاملا على ابن كيران ، وقد يراه البعض تحليلا موضوعيا ونزيها … ويبقى أن ما أومن به أنني ما أردت إلا الخير لهذا الحزب والوطن من خلال ما كتبت وسأكتب، مهما بلغت قساوة كلامي، فأن أكون قاسيا صادقا ، خير من أن أكون لينا متملقا .. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل. ملاحظة: هذه الحلقة تتمة لمقالات كتبتها صيف السنة الماضية، والتي خلفت ردود فعل متباينة ونقاشات حادة وصلت إلى حد الإساءة، هذه الحلقة وبعد تدخل بعض الإخوة الذين أكن لهم تقديرا خاصة طلبوا مني عدم نشرها، وقد امتثلت لذلك، ولكن خلال هذه السنة اتضح لي ألا شيء تغير، بل ازداد الأمر توترا وحدة، وفي إطار التقدير والاحترام للإخوة الذين طلبوا مني عدم نشره، اتصلت بهم وأخبرتهم بتراجعي عن ذلك لأسباب ليس هنا بيان تفصيلها.