جاء في التعريف اللغوي ل “الجوهر” حسب المعجم الوسيط ما يلي: جوهر الشيء حقيقته وذاته، وفي “الفلسفة” ما قام بنفسه ويقابله العرض وهو ما يقوم بغيره. أما عند المتكلّمين (كما جاء في "موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي”، للدكتور سميح دغيم)، فهو (الموجود القائم بنفسه المتحيّز بالذات)، ومعنى قيامه بنفسه هو أنه يصحّ وجوده في غير محلّ يقوم به. وبهذه القيود يخالف الأعراض، وهي التي لا يصحّ وجودها إلا قائمة في محلّ لأنه لا تحيّز لها إلا أن يكون تابعاً لتحيّز المحلّ الذي تقوم فيه، وليس وجودها في نفسها إلا نفس وجودها في المحل الذي تقوم فيه. .. هل فهمتم شيئا؟ انا شخصيا لم أفهم الا القليل.. لذلك لن يكون هذا هو “الجوهر والعرض” الذي ابحث عنه من اجل الوقوف على حقيقة الأوضاع التي تجتاح امتنا وشعبنا في المحيط إلى المحيط.. هو “جوهر وعرض” أبسط من ذلك بكثير، لكنه أخطر من ذلك بكثير جدا! (1) لطالما حيرتني ثنائية الجوهر/العرض في تفسير واقع امتنا الاليم، وما وصلت اليه من انحطاط غير مسبوق.. ما ابحث هنا هو “حقيقة الأشياء وكنهها” مقابل ” ظاهر الأشياء وعرضها”، وعلاقتها سلبا أو إيجابا مع نهضة الامة العربية والإسلامية او انتكاستها.. لتقريب الصورة أكثر إلى أذهان القراء الأعزاء، اضرب لذلك مثلا في العبادات الكبرى في الإسلام، أعنى أعمدة الإسلام الخمس التي بُني عليها ولا يقوم الا بها وعليها.. فالشهادتان مثلا ظاهرها هو انها كلمات معدودة وألفاظ محدودة، وهي: (أشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله).. قد يقولها المؤمن وقد يقولها غير المؤمن.. فما الذي يجعلها مفتاح الدخول الى الإسلام وقاعدته المتينة ومنطلقه القوي.. ليس “ظاهرها” فقط، وإنما باطنها “جوهرها” هو الأصل.. فما جوهر هذه الكلمات؟ إنه “التوحيد” بكل ما تعنيه الكلمة، توحيد الربوبية (إفراد الله تعالى بأفعاله، كالخلق، والتدبير، والملك، إذ لا مالك إلا الله تعالى)، توحيد الألوهية (إفراد الله تعالى بأفعال العباد، وعدم صرف أي نوعٍ من أنواع العبادة إلّا لله وحده لا شريك له، فلا حاكم على الحقيقية الا له سبحانه)، توحيد الأسماء والصفات (الإقرار والتصديق بأسماء الله تعالى، التي وردت في كتابه، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وصفاته التي وصف الله -تعالى- بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم).. كذلك الامر مع الصلاة والصيام والزكاة والحج.. فظاهرها مجموعة أفعال وأقوال يلتزم فيها المسلم القواعد الناظمة لها في الفقه الإسلامي، فلا يحيد عنها، لأنها لا تقوم الا بالاتباع، لكنها لا تتوقف عند هذا الحد، فالصلاة جوهرها (مخاطبة الله، وتعميق الصلة به)، والصيام جوهره (التقوى)، واما الزكاة فجوهرها (التطهير والنماء النفسي والحياتي)، واما الحج فجوهره التجرد والخروج الشعوري من الدنيا من اجل الآخرة. كما ان لها ثمارا تأخذ شكل السلوك والمعاملات ومنظومة المشاعر المتفقة كلها مع “كنه” العبادات بكل أشكالها وانواعها.. لذلك جعل الإسلام العلاقة بين اعمال القلب/النفس/العقل وبين الواقع المُعاش وثيقا الى حدٍّ جعل من الاعتراف بأحدها منفصلا عن الاخر ضربا من المستحيل والعبث الذي لا يمكن البناء عليه لنهضة شاملة للأمة ينقلها من القاع السحيق الى القمة.. من هنا ذهب المفكر الإسلامي ورئيس البوسنة الأسبق (علي عزت بيغوفيتش) رحمه الله ورضي عنه، في كتابه العبقري (الإسلام بين الشرق والغرب)، إلى أن تركيبة الإنسان مرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة، أي باختلاف الواحد عن الآخر رغم تفاعلهما. هذه الثنائية هي نقطة انطلاقه، والركيزة الأساسية لنظامه الفلسفي ومن خلالها يُقدَم الإسلام للغرب. يرى (بيغوفيتش) أيضا، أن من المستحيل تطبيق الإسلام انطلاقا من مستوى واحدي، فثنائية المادي والروحي تقع في صميمه. فالصلاة – وهي نشاط روحي – لا يمكن أداؤها أداءً صحيحا إلا من خلال إجراءات علمية “بضبط الوقت والاتجاه في المكان، فالمسلمون مع انتشارهم على سطح الكرة الأرضية عليهم أن يتوجهوا جميعا في الصلاة نحو الكعبة مكيفين أوضاعهم في المكان على اختلاف مواقعهم، وتحديد مواقيت الصلاة تحكمه حقائق علم الفلك. ولابد من تحديد هذه المواقيت للصلوات الخمس تحديدًا دقيقا خلال أيام السنة كلها، ويقتضي هذا تحديد موقع الأرض في مدارها الفلكي حول الشمس”. انتهى.. (2) دعاني إلى تناول هذا الموضوع سؤال لطالما ألح علي.. ما سبب هذا الانهيار الذي أصاب العالم العربي والإسلامي بالرغم من ملايين المساجد التي يؤمها مئات الملايين من المسلمين، وآلاف الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية التي يتخرج منها مئات الآلاف من العلماء والدعاة والمصلحين، وعشرات آلاف الفضائيات والمواقع الإلكترونية التي ملأت الفضاء الإسلامي بكل روائع الإسلام، إضافة إلى توفر الإمكانات المادية والبشرية التي لو امتلكتها امة قادرة لأصبحت أعظم الأمم قاطبة؟؟ لماذا، ولماذا، ولماذا؟ تبين لي ان سبب ذلك كله هو حالة الانفصال بين “الظاهر والباطن” و “الجوهر والعرض” في حياتنا كمسلمين، الأمر الذي لم يكن في حياة القادة العظماء في تاريخ الإسلام ابتداء من الرسول عليه الصلاة والسلام، مرورا بالخلفاء الراشدين، والدول الإسلامية التي تعاقبت، وانتهاء بالخلافة العثمانية، الذين حرصوا دائما على أن يكون الإسلام في حياتهم عقيدة وعبادة واخلاقا وسلوكا وقناعات وخدمات وعلاقات، هو المحرك والموحد لشخصيتهم الفردية والجماعية… ما شهدت الامة انفصاما في الشخصية الا في القرون الأخيرة من تاريخها، وعلى وجه الخصوص مع بداية القرن العشرين، بعد ابتلائها بطبقة من الحكام والعملاء الفكريين والثقافيين، والمتغربين السياسيين والعسكريين والاقتصاديين، وجيشٍ من مُشِيِعي الفاحشة بين المؤمنين من الفنانين والممثلين والراقصات والراقصين، وقطعان فارغة من المطبلين والمصفقين والناعقين.. (3) عنوان هذا الارتكاس في حياة الامة يمكن تحديده في مسألتين: الأولى، الانتقائية، فنحن لا نأخذ الاسلام كله، وإنما نأخذ منه ما يوافق هوانا ونترك ما يخالفه، والله سبحانه ورسوله حذرا من الوقوع في هذا الانفصام النكد، فقال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).. ويقول سبحانه ايضا: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُون).. لاحظت من خلال متابعاتي لحركة المجتمع ان الانتقائية تأخذ شكلين لا ثالث لهما.. 1. عدم القناعة او انكار لحق أصيل من اصول الاسلام، كمن ينكر قانون الميراث او يصلي ويصوم لكنه ينكر على الاسلام حقه في التدخل في سؤون الحياة.. الخ.. وهذا السلوك خطير جدا قد يخرج الانسان المسلم عن الملة والعياذ بالله. 2. العجز/التخاذل عن تنفيذ احكام الله تعالى واوامره ونواهيه بسبب فقدان السيطرة او الخوف من تعقيدات الحياة، ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في ظواهر الانحراف الاسرية كالتبرج والسفور والمبالغة في مناسبات الافراح والاتراح، وما انتشر من تحلل في اوساط الاجيال، وانتشار العنف.. الخ.. وهذا ايضا خطير من حيث انه انحراف خطير عن تعاليم الاسلام من جهة، ومقدمة ليتحول الحرام الى حلال والمحظور الى مباح بحكم العادة دون الاحساس بخطورة الاستمرار الذي قد يؤدي الى العقاب الدنيوي قبل الاخروي من جهة أخرى.. المسألة الثانية، غياب المعاني/الجوهر عما نؤديه من عبادات، فلم تعد صلتنا برسوم الاسلام تحمل عمقا وثمرة تنظم شؤون الحياة! فاغلب أمتنا العربية والاسلامية تشهد شهادة الحق وتصلي وتصوم وتزكي وتحج البيت، وتقرأ القرآن واوراد الصباح والمساء، وتؤدي غير ذلك من الطقوس الاسلامية، الا أن كل ذلك لا يتحول لسبب خفي الى طاقة محركة للمجتمع في اتجاه البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاخلاقي والسلوكي والعلمي والروحي والجسدي، ويحقق قدرا كبيرا من التكاتف الاجتماعي والانساني داخليا، والوحدة السياسية والجغرافية والفكرية والحضارية من جهة اخرى.. مثال ذلك، غرق مجتمعاتنا العربية هنا في الداخل وهنالك في كل ارجاء العالم العربي والاسلامي في نزاعات وصراعات دموية، وتخلف حضاري، وانحطاط مدني وسياسي وعسكري واقتصادي، رغم ما يتوفر بيدها من عوامل قادرة على ان تكون بها أعظم أمة على وجه الارض.. التمسك برسوم الاسلام دون العمل على تحويل هذه الرسوم الى طاقة تنظم الحياة وتجعلها كالخلية والواحدة، يؤدي حتما الى هذه الازمة التي نعيشها.. (4) حتى لا نبقى في دائرة توصيف المرض دون الانتقال منه الى تحديد الدواء الشافي، لا بد ان نسأل: ما هو الحل؟ الحل نأخذه من كتاب ربنا وسنة نبينا عليه السلام، وموروثنا العظيم وسير سلفنا الصالح، والذي يشير الى أنهم ما تفوقوا على المستويين الفردي والجماعي الا بما يلي: اولا، احكموا سلطانهم على نفوسهم فلم يتركوها تلهث وراء النزوات والشهوات، ولجموها بلجام التقوى والدين فسمت وارتقت وأصبحت أقرب الى عالم الملائكة منها الى عالم الدنيا. ثانيا، احكموا سلطانهم على أوقاتهم فلم يهدروها فيما لا يفيد، بل سخروها كلها لعمارة الارض وعبادة الرب.. ثالثا، أخذوا الاسلام كله، وطبقوا تعاليمه كاملة في حياتهم، فتحولوا بذلك الى نور يضيء الظلمات والى روح تُحْيِي الحياة وتبعثها من جديد بعد موات.. عندما تسخر الأمة كل إمكاناتها لإنتاج الشخصية الكاملة والمتوازنة والملتزمة والموحدة في ظاهرها وباطنها بما يتوافق مع ثوابتها الدينية والوطنية، فيكون ظاهرها كباطنها، وباطنها كظاهرها، يتحول الإسلام عندها الى محرك يجعل من الأمة يدا من ايادي القدر لا تستطيع قوة ان تقف في وجهها.. عندها، وعندها فقط تبدأ عملية النهوض.. **** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني