أيكون المجرم إنسانا لحظة المحاولة أو الشروع في القتل؟ باد للعيان، أن الجريمة بالمغرب قد استفحلت، كما هو باد كذلك أن أدواتها قد تطورت، ومقاييس بشاعتها قد زادت، فلم يعد القتل وحده يكفي القاتل، بل صار متعطشا للتنكيل بالضحية أكثر من إراقة دمائها.. وهو ما شهدنا تجلياته في الجرائم المقترفة الأخيرة.. حيث القاتل ينكل بالضحية قبل قتله، ثم يمثل بجتثه، وكأن القتل ليس كافيا لإخماد حرائق وحشيته، ونيران حيوانيته، وجمار عدوانيته الغائرة في نفسية مهتزة ومضطربة.. وتشهد كثير من حيثيات ومعطيات الجرائم التي حدثت، أن الجاني أو الجناة يكونون في حالة عري من كل قيمة أو إحساس بالانسانية، فحتى توسل الضحية أو دماء جراحه، وقد أردي أرضا لا تشفع له، ولا تثير في الجاني أدنى شعور بالرفق أو الرحمة، وتدفعه للتراجع، مما يجعله -في تلك اللحظة على الأقل- خارج دائرة الانسانية! وهذا الأمر، إن دل على شيء فإنما يدل على موت الانسان في المجرم القاتل، وموت كل القيم التي قد تكبح جماح عدوانيته، وكل المخاوف التي قد تردع حماسة إجراميته، ذلك أنه ينتفي من وعيه وحسبانه، كل كابح داخلي وكل رادع خارجي، فلا ضمير ولا إنسانية ولا قانون ولا عقوبة، قد تحول بينه وبين الجرم المنظور، فلا يضع في حساباته أية اعتبارات إلا تصفية حسابه مع خصم فعلي أو مفترض. فتصفية حسابات مع خصم فعلي، لا تبرر القتل ولكنها تنقله إلى درجة أدني على مستوى إحداث الصدمة الاجتماعية والنفسية، ولكن الطامة الكبرى، هي عندما يكون الضحية لا ينتمي إلى عالم المجرم ولا إلى نسيجه الاجتماعي ولا إلى شبكة علاقاته، ومع ذلك لا يسلم، وهنا تكمن الخطورة أكثر، لأن ضحية الجريمة قد يكون أنت أو أنا أو أي أحد آخر، لم يجمعه بالمجرم إلا سوء الحظ والوقت والمكان، وهو مبعث القلق والخوف الذي أصبح رفيقا يوميا للمواطن المغربي، الذي يتحرك لمقاصده ويسعى لمنافعه.. وما داكم الكل، يتحرك في المكان والزمان، قضاء لحوائجه ومصالحه، وفي ظروف وحظوظ مختلفة، يصبح كل فرد من المجتمع ضحية بالقوة وقتيلا مفترضا بالفعل.. إذا وقع بين يدي المجرم، في لحظة نفسية مفارقة للواقع وللإنسانية، بغض النظر عن الأسباب والمسببات،مادية كانت أو نفسية، فسيروح هذا الفرد ضحية، ولنا أن تصور عدد أفراد المجتمع، لنتصور عدد الضحايا المفترضين، الذين سيسقطون لا لسبب أكثر من سوء الحظ ووجود مجرم حرا طليقا.. فبقاء المجرم حرا طليقا، وهو يرتكب جنحا ومخالفات ويطلق سراحه، ويعود ويطلق سراحه أو يعاقب عقابا خفيفا، لسبب أو آخر ثم يسرح، يجعله يتمادى في ارتكاب الأفعال المجرمة اجتماعيا وقانونيا، ويزيد من حدة عداوته للتنظيم الاجتماعي والنظام القانوني، فيقبل على خرقهما، وارتكاب المحظور، باقتراف مزيد من الجرائم، فلا يفرق بين جنحة وجناية وكلما تقدم في مدارك الجرائم، كلما زادت مكانته الرمزية لدى الأفراد والجماعات الخارجة عن النظام الاجتماعي والقانوني.. فما ذنب، فرد من المجتمع، أن يقتل على حين غرة، وهو يمضي لقضاء حاجة، أو يعود من تحصيل مصلحة!؟ أعليه أن يحمل القوس والنشاب أم الرمح المهند، ليحمي نفسه، ويحفظ حياته ويصون عرضه وماله!؟ أليس على الدولة أن تكفل له سلامته في نفسه وماله وعرضه!؟ بدهي ألا يجيب أحد بالنفي والسلب، لأن هاته المطالب من صميم مسؤولية الدولة وواجباتها، ومن نياط انتظارات المواطن وحقوقه. ولكن كيف ذلك؟ فالدولة لا تعلم الغيب، ولا ما سيقع في المستقبل.. وهو أمر منطقي ومفهوم، لكن عليها ألا تتساهل في إيقاف المشتبه بهم، ومعاقبة المتورطين منهم، ومواجهة المسلحين منهم بالسلاح، بالرصاص، فرجل الأمن لا يمكنه حمل صندوق أسلحة متنوعة، السيف المعقوف والسكين الطويل، والعصا بمسامير وأخرى بدونها، والساطور، والمنجل.. لمواجهة كل مجرم حسب سلاحه، تحقيقا لشرط “مناسبة السلاح”، الشرطي له سلاحه الوظيفي، وله الحق في استعماله، كلما شعر بالخطر، يتهدده أو يهدد مواطنين عزل أبرياء، وله أن يستعمله، عند رد الفعل ودرء الخطر، كيفما اتفق، أمام مجرم لا توقفه إلا إراقة الدماء، ولا يرده إلا إرداءالضحية، ولا تخرسه إلا لعلعة الرصاص.. كي يمنع جريمة قد تقع في أجزاء مائوية من الثانية، فهل يتسنى للشرطي، التأمل والتفكير وإجراء الحسابات واتخاذ الاحتياطات لإطلاق الرصاص، في أجزاء من الثانية!؟ وهو الأمر الذي لا تتحمله حتى طبيعة العقل البشري وسرعته..ولعل ذلك ما حدث مع مفتش آنفا الممتاز الذي ربما تحت طائل الصدمة والإصابة استعمل سلاحه الوظيفي لا إراديا،فلم يجد مجالا للتفكير والتصويب والتسديد.. وهو ما حدث مع غيره من قبل.. وحتما سيحدث في المستقبل.. لأن الشعور بالخوف والتهديد يصعب قياسه أو التحكم فيه، كما يصعب إنكاره ونفيه عن الشرطي الذي قد يستعمل سلاحه الوظيفي في حالة الدفاع الشرعي.. وباستحضار واقعة البيضاء الأخيرة، يجد الناظر نفسه أمام أسئلة مهمة، ماذا لو لم يقدم الشرطي على ما أقدم عليه،هل كان لينجو وقد تم الشروع في جز رقبته بالسكين من طرف أربعة مشتبه بهم؟ أيصح أن يحاكم تصرف الشرطي بالعقل والمنطق والوعي وهو الذي تصرف تحت طائل الرعب والإرهاب والخشية على حياته؟ كيف يمكن نفي الشعور بالخوف والتهديد عنه، وكيف يمكن له وهو في حالة خطر داهم -كما تشير المعطيات- أن يلتزم بشرط التناسب في السلاح؟ أكان عليه أن يسأل المجرمين عن نيتهم ذبحه أم مجرد إخافته وقد حزت رقبته، أكان عليهأن يطلب منهم الالتزام بالمسافة القانونية والانتظار حتى يطلق رصاصتي التحذير، ثم بعدهما يصوب على أطرافهما؟ وأستبعد أن يمهلاه كل هذا الوقت.. فيرديانه ثم لا يرديهما!