بكلمات قصيرة ومؤثرة، ودموع ممزوجة بتعابير الأسى، خاطبت رئيسة الوزراء البريطاني، تيريزا ماي شعبها، معلنة تركها منصبها في رئاسة الحكومة البريطانية، بعد فشلها في تمرير إتفاق بريكست، وذلك بعد محاولتها إقناع مجلس العموم البريطاني، بإجراء إستفتاء ثان لخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، حيث قوبل عرضها بالرفض من قبل نواب المعارضة، وكثير من أعضاء حزبها. تيريزا ماي التي لم تكن بحاجة إلى دبابة وبندقية لتتربع على منصب رئاسة الوزراء، ولم يستدعي وصولها إلى هذا المنصب الرفيع، الركض على جماجم وأشلاء شعبها، كما هو حال البعض، بل وكما هو معلوم لدى الجميع، فتيريزا ماي نالت منصبها، خلفا للرئيس المستقيل، ديفيد كاميرون الذي غادر منصبه، بعد إستفتاء خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، لتجد تيريزا نفسها، المرشحة الوحيدة لهذا المنصب، بعد إنسحاب منافستها ليدسوم، ليتم إختيار تيريزا ماي تلقائيا لتولي منصب رئاسة الحكومة البريطانية في يوليو من عام 2016. لم يكن مسار تيريزا ماي في منصبها الجديد، ناجحا بالشكل الذي تتمناه، حيث تعرضت لمجموعة من العراقيل والضغوطات، عجلت بإعلانها عن تقديم إستقالتها من منصبها، كرئيسة للوزراء في بريطانيا، وهي التي كانت تمني النفس، بأن يذكرها التاريخ والبريطانيين، بأنها من قادت بريطانيا للخروج من الإتحاد الأوروبي، لكن حدث العكس، بعد أن كتب لبريطانيا أن تفشل في الخروج إلى الآن، تحت قيادة تيريزا ماي. ما لن يغفله التاريخ، وسيتذكره البريطانيون ومعهم معظم شعوب العالم، هو تلك الكلمات الجميلة والمؤثرة التي ألقتها، وختمت بها تيريزا ماي مسارها، كرئيسة أحد أعظم القوى العالمية(بريطانيا العظمى)، وحددت بها موعد إستقالتها من مهامها، في السابع من يونيو القادم، حيث وفي مشهد مؤثر أعلنت أنه أصبح من الواضح لها الآن، أن مصلحة البلاد تقتضي وجود رئيس وزراء جديد، يقوم بما فشلت في القيام به، قدمت منصبها كثمن لفشلها في مهمتها. أعلنت تيريزا لشعبها بكل جرأة وشجاعة أنها فشلت، وتحملت مسؤولية فشلها، بتقديم إستقالتها ومغادرة منصبها. لم تنهج تيريزا ماي خطاب المظلومية بالرغم من ما تعرضت له من ضغوطات قوية، من المعارضين، وحتى من الأصدقاء داخل حزب المحافظين، لم تروج لنظرية المؤامرة عليها، ولم تعلق فشلها على أطراف خارجية، لم تتهم أيادي خفية بعرقلة مسارها وجهودها، بل إنسحبت بهدوء تام، ملقنتا للكثيرين درسا بليغا ومعبرا، في الديمقراطية وإحترام إرادة الشعوب. لم تتوعد تيريزا ماي معارضيها، ولم تهدد مخالفيها بالسجن والإغتيال، كما يفعل الكثير من حكام العرب ومسؤوليهم، بل أعلنت أن مصلحة وطنها تكمن في تنحيها ومغادرة كرسي السلطة. السلطة التي تركتها وتنازلت عن إمتيازاتها السيدة تيريزا بهذا الهدوء وبهذه البساطة في بريطانيا، هي نفسها السلطة التي سعرت بها، نيران الفتنة في الأوطان العربية، والأقطار الإسلامية، وأدخلتها في دوامة من العنف والخراب، الفرق أن بريطانيا لديها أمثال تيريزا ماي، والعرب لديهم أمثال بشار والسيسي ومحمد بن سلمان وآخرون كثر، لو إجتمعوا كلهم في كفة وتيريزا ماي في كفة بما قدمته اليوم من دروس للعالم لمالت كفتها بكل تأكيد. يكفي أن نعلم أن أحد هؤلاء الزعماء العرب، أباد نصف شعبه بالكيماوي، وحكم على نصفه الباقي باللجوء والتشرد بين دول العالم، ليضمن لنفسه وحاشيته البقاء إلى الأبد في القصر الرئاسي. أحدهم كذلك جاء على ظهر دبابة وبلباس عسكري، فعزل الرئيس الشرعي وإستولى على منصبه، أعلن حالة الطوارئ، وسجن معارضيه، وسفك دماء مخالفيه، عدل دستور البلاد، وفصل بنوده على مقاسه، معلنا لشعبه أنه رئيسهم وحاكمهم الأبدي. أحد هؤلاء أيضا لم يجد وسيلة لإسكات أصوات معارضيه ومنتقدي سياساته، سوى الإجهاز عليهم بمنشار كهربائي، وأحكام بالإعدام، حماقته وتهوره وهوسه المجنون بالسلطة وطريقة تصفية معارضيه، جعلت منه مادة سخرية للإعلام العالمي، وحديث الرأي العام الدولي، بات عنوانا للتنكيت لدى مختلف رواد ونشطاء، مواقع التواصل الإجتماعي عبر العالم. في السودان وفي الجزائر، تكاد تكون الصورة هي نفسها، حيث العصابة المتحكمة في مقاليد الحكم، تحاول تكرار نفس السيناريو، وتحاول رسم صورة طبق الأصل لما وقع في مصر وسويا. في المغرب لا يبدوا الوضع مختلفا عن باقي الأقطار، جور، وظلم، وإستبداد، وطغيان، يكفي أن نستحضر حالة إعتقال الصحفيين ونشطاء الحراك بالريف وجرادة، والحكم عليهم بأحكام قاسية تقدر بآلاف السنين. مرض الكرسي والرئاسة، والتشبت بالسلطة عند العرب، جعلنا نرى زعماء مسنين وآخرون مرضى ومقعدين على كراسي متحركة، يقودون شعوبهم، ويتمسكون بالرئاسة والزعامة، وهم في تلك الحالة، والكارثة أن البلدان العربية في ظل حكم هؤلاء الزعماء، من أكثر البلدان في العالم فسادا وتخلفا وإنحطاطا. والحقيقة أن ما أقدمت عليه تيريزا ماي اليوم، يشكل أقسى درس للحكام والقادة العرب مجتمعين، في الديمقراطية، وتداول السلطة، وإحترام إرادة الشعوب وتقديرها، وتغليب مصلحة الوطن على المصلحة الشخصية للقائد والزعيم، وهو درس بليغ ومعبر كذلك في حب الوطن وخدمة الصالح العام، فليعتبر قادة العالم ويأخدوا الدرس جيدا من السيدة تيريزا ماي.