"اكتساح قسنطينة" يفرح البركانيين    قمع احتجاج أمازيغي يثير سخط الحقوقيين    الجيش الإسرائيلي يقر بحصول "إخفاقات مهنية متعددة" في واقعة مقتل 15 مسعفا في غزة    ميرسك تلاحق صحيفة دنماركية قضائيًا بعد اتهامات باطلة بشأن شحنات أسلحة إلى إسرائيل.. وجهات معادية تقف وراء استهداف ميناء طنجة    الثانوية التأهيلية المجد بامطل تختم فعاليات الدورة الأولى للأيام الثقافية للمؤسسة    البوليساريو... الذراع العسكرية لإيران في شمال إفريقيا برعاية جزائرية    الأمن يتفاعل بسرعة مع أحداث عنف في القصر الكبير ويوقف ثلاثة مشتبه فيهم    الحسيمة.. انعقاد الاجتماع التشاوري الأول حول مخطط التدبير التشاركي للفرشة المائية غيس – النكور    المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بجامعة وجدة تشهد تأسيس أول نادٍ سينمائي    خمس لاعبين مغاربة ضمن التشكيلة المثالية لكأس إفريقيا للفتيان    مغاربة داعمون للقضية الفلسطينية يحتجون أمام ميناء "طنجة المتوسط"    ابن تمسمان الأستاذ سعيد بنتاجر، يقارب الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي في معرض الكتاب بالرباط    ترامب يعيد هيكلة الخارجية الأمريكية    تفاصيل حريق المسبح البلدي بالناظور    الدرك يطيح بأحد كبار مروجي الخمور باقليم الدريوش    "نداء القنيطرة" يدعو لإصلاح الإعلام    أفاية: قراءات اختزالية تستهدف "النقد المزدوج" عند عبد الكبير الخطيبي    فتح بحث قضائي لتحديد ظروف وفاة طفلين في حضانة غير مرخصة بالدار البيضاء    لقاء إقليمي بالحسيمة يسلط الضوء على آفاق الاستثمار في إطار قانون المالية 2025    برلماني يسائل وزير الفلاحة حول توتر العلاقة بين أعضاء من الغرفة الفلاحية والمديرية الإقليمية بطنجة    مستشار ترامب: الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء لا لبس فيه    المغرب يتصدر صادرات الفواكه والخضروات عالميًا: ريادة زراعية تنبع من الابتكار والاستدامة    مقاولون يقاضون "التيكتوكر" جيراندو بالمغرب وكندا بتهم التشهير والابتزاز    السعدي: الحكومة ملتزمة بتعزيز البنية التحتية التكوينية المخصصة للصناعة التقليدية    القوات المسلحة تُكوّن ضباطًا قطريين    "موازين" يواصل جذب نجوم العالم    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في فعاليات معرض "جيتكس إفريقيا"    القفطان يجمع السعدي وأزولاي بالصويرة    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تحتفي بالمنتخب الوطني لأقل من 17 سنة إثر تتويجه باللقب القاري    الفنان الريفي عبد السلام أمجوظ يتألق في مسرحية سكرات    عبد العزيز حنون يدعم البحث في اللسانيات الأمازيغية بأطروحة حول التمني بأمازيغية الريف    تفاصيل اجتماع نقابات الصحة مع مدير الوكالة المغربية للدم ومشتقاته    بعد القرار الأمريكي المفاجئ .. هل يخسر المغرب بوابته إلى السوق العالمية؟    "الكاف" يختار المغربي عبد الله وزان أفضل لاعب في البطولة القارية للناشئين    الأرصاد الجوية تتوقع نزول زخات مطرية متفرقة اليوم الأحد    بنكيران: الأمة بكل حكامها تمر من مرحلة العار الكبير ولا يمكن السكوت على استقبال سفن السلاح    الآلاف يتظاهرون ضد ترامب في الولايات المتحدة: لا يوجد مَلك في أمريكا.. لنُقاوِم الطغيان    الاتحاد الوطني للشغل يدعو إلى تعبئة شاملة في فاتح ماي    " هناك بريق أمل".. رواية جديدة للدكتورة نزهة بنسليمان    ندوة علمية تناقش الحكامة القضائية    الكوكب يسعى لتحصين صدارته أمام الدشيرة والمنافسة تشتعل على بطاقة الصعود الثانية    دراسة تدعو إلى اعتماد استراتيجية شاملة لتعزيز الأمن السيبراني في المغرب    الأساتذة المبرزون يحتجون الخميس المقبل    لقاء يناقش دور المجلس الأعلى للحسابات في تتبع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة    الكشف عن نوع جديد من داء السكري!    دورة برشلونة لكرة المضرب: ألكاراس يتأهل للمباراة النهائية    برشلونة يضع المدافع المغربي إدريس أيت الشيخ تحت المجهر … !    مغرب الحضارة: حتى لا نكون من المفلسين    لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟    أنور آيت الحاج: "فخور بمغربيتي"    قناة إيرلندية تُبهر جمهورها بسحر طنجة وتراثها المتوسطي (فيديو)    ‪ بكتيريا وراء إغلاق محلات فروع "بلبن" الشهيرة بمصر‬    تزايد حالات السل اللمفاوي يسائل ضعف مراقبة سلاسل توزيع الحليب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    بيانات تكشف ارتفاع الإصابة بالتوحد وكذلك زيادة معدلات تشخيصه    أكادير يحتضن مؤتمر التنظير عنق الرحم وجوف الرحم والجهاز التناسلي    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَظَاهِرُ التَّكامُلِ المَقَاصِدِيِّ بيْنَ تِلاوةِ القُرآنِ وصِيامِ رَمَضَانَ
نشر في العمق المغربي يوم 09 - 05 - 2019

بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم والحمدُ لله رب العالمين والصّلاة والسلامُ على رسول الله.
إنّ من نعمِ اللهِ تعالى على عِبادِه، التي اِمْتَنَّ بها عليْهم نِعمةُ الخَلْقِ والإيجادِ، بعد أن كانوا في عدمٍ لا ذِكرَ لهم، قال تعالى: (هَلْ اَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُوراً) [الإنسان/01] لتتوالى بعد ذلك عليهم ما لا يُحْصى من الآلاءِ، وما لا يُعَدُّ من المِنَنِ، التي لا يُسَدِّدُها حَمْدٌ، ولا يُؤدِّيها شُكٌر، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل/18]، وحتّى لا يكونَ الإنسانُ تائهاً في الكونِ، حائراً في الوجودِ، جاهلا بالغاية، أنزَل اللهُ تعالى القُرآن الكريم، ليكون للعالمين دَليلاً كافياً إلي ربِّهم ومُرشدا وافيا في حياتِهم، ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة/01] قال أهلُ التّفسير: “والهُدى -على التّحقيق- هو الدّلالةُ التي من شأنِها الإيصالُ إلى البُغْيَةِ”[1] ولأن القُرآنَ كلامُ الله تعالى، وهو خيْرُ كلامٍ، اقْتَضَت الحِكمةُ الإلاهيةُ والمَشيئَةُ الرّبَّانيةُ نُزوله في خَير الأيّام، أيّامِ شهرِ رمضانَ (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً للنّاسِ) [البقرة/184] فدَعت الشّريعة السّمحةُ إلى تَعظِيم القُرآن الكَريمِ بالتّلاوة والتّدبُّر وإلى تعظيمِ شَهرِ رمضَانَ بالصِّيام والقيَّام والتّعبُّد، وقدْ دلّتْ نُصوصُ الوحيِ -سواءٌ كانت قرآناً أوسنةً- على التّماثل الكبِير والتّكامل البَديع بيْن تِلاوة القُرآن الكريم وصِيام شهرِ رمضانَ الفضِيل، من حيثُ فَضْلِهما و أثرِهما على قلبِ المُسْلم وسلوكِه وتشفِيعِهما في العبدِ يومَ القيامَةِ وغيرِ ذلك من الفضائِل التي لا حَصْرَ لها ولا حدَّ، وقد ورَدَ ذِكرُهما شَفْعاً في غيرِما آيةٍ كقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). وسنَعملُ في هذه المقالةِ – بحول الله- على تِبيانِ بعضِ مظاهرِ التّكامُل بينَهما من حيث مقاصِدِهما الدّنيويّة الأُخْرويّة.
المظهر الأول: نُزولُ القُرآنِ فِي شَهرِ رمَضَانَ.
أجْمَعَ أهْل التّفْسِيرِ والسِّيرةِ على أن نزولَ القرآن الكريم على قلبِ الرسول الأمين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ابتدأ في أيّام شهر رمضان، ثم تتابع نزوله بعد ذلك على أمَدِ عقدين ونيّف. مصداق ذلك في التّنزيل الحكيم قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) قال الإمام ابن عاشور رحمه الله معلِّقا على الآية: “والمرادُ بإنزال القرآن اِبْتِداءُ إنزالهِ على النّبي صلى الله عليه وسلم، فإن فيه (أي في شهر رمضان) ابتداءُ النُّزول من عامِ واحدٍ وأربعين من الفيلِ، فعبّر عن إنزال أوَّلِه باسم جَمِيعِه؛ لأن ذلك القدْرَ المنزّلَ مقَدَّرٌ إلحاقُ تَكْمِلَتِهِ بهِ كما جاء في كثيرٍ من الآياتِ” [2].
إن ابْتداء نُزول القرآن على رسولِ الله في شهر رمضان حَدٌّ مُجمَع عليه بين أهل العلم، إلا أنّ الاختلافَ بينهم في أيِّ ليلةٍ من ليالي شهرِ رمضان اِبْتَدَأ نزول الوحي؟ “وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثارٌ كثيرةٌ، بعضُها يُعيِّن الليلة السابعة والعشرين من رمضان، وبعضها يعيِّن الليلة الواحدة والعشرين، وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة، وبعضها يطلقها في رمضان كلِّه، فهي ليلةٌ من ليالي رمضان على كلِّ حالٍ في أرجحِ الآثار” [3].
وقد نقَل ابن هشام في سيرته عن بعض رواة السيرة أن أول ما نزل من القرآن الكريم نزل في شهر رمضان، حيث جاء في سيرته: (وذلك الشّهرُ شهر رمضان، خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى حِرَاءَ كما كان يَخْرج لجواره، ومعه أهلُه، حتّى إذا كانت الليلة التي أكرَمَه الله فيها برسالته … قال رسول الله: “فجاءني جبريلُ وأنا نائمٌ، بِنَمَطٍ من دِيبَاجٍ فيه كتابٌ، فقال اِقرأ؛ قال: قلت: ما أقرأ؟ … فقال: “اقرأ باسم ربِّك الذي خلقَ خلقَ الإنسانَ من علقٍ اقرأ وربُّك الأكرمُ الذي علَّم بالقلمِ علَّم الإنسانَ ما لمْ يَعْلم” [4]. فيُقالُ إذن إنّ نزول القُرآن في شهر رمضان منْ أعظمِ المِنَنِ التي أسْداها الله تعالى لعباده، فكانَ من حِكمته أن يَدْعوهم إلى أعْظم عِبادةٍ في نفس الشهر، ليُقابِلوا نِعمتَه العظيمةَ بشُكرهِم له. قال الإمامُ فخر الدّين الرازي رحمه الله مبيِّنا هذا المَعنى: ” اِعلمْ أنّه تعالى لمّا خصّ هذا الشّهرَ بهذه العِبادة بيّن العلةَ لهذا التّخصيصِ ، وذلك هُو أنّ الله سُبحانه خَصّه بأعظمِ آيات الرُّبوبية ، وهو أنّه أنزل فيه القرآنَ ، فلا يَبْعدُ أيضا تخصِيصَه بنوعٍ عظيمٍ من آيات العُبودية وهو الصّوم، ممّا يُحقِّق ذلك أنّ الأنوارَ الصّمديّة مُتجلِّيةٌ أبداً يُمتنعُ عليها الإخفاءُ والاحْتِجابُ” [5]
فتلك نعمٌ عظيمةٌ من الله تعالى ومننٌ كريمةٌ من الرّحمن جل شأنُه اِجتَمعت في شهر رمضان، أولُها وأعظمُها نزول القرآن الكريم فيه ليُتْلى ويُهتَدى بِه، وثانيها أمرُ الله عباده بصيامه وقيامه تعظيماً له وإجلالاً.
المَظْهرُ الثّاني: الحَثُّ على مُدارسَةِ القُرآنِ في شَهْرِ رمضانَ.
لقدْ دعت الشّريعةُ الغرّاء إلى قِراءة القرآن ومُدارسَته في مُختلف الأَوقاتِ وفي كل الأحيَان، وأثنَى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أولئك الذين يقرؤونَ القُرآن ويتَدارسُونَه فيما بينهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ) [مسلم/رقم:2699].
إلا أنّ السُّنة العمليةَ لرسول الله عليه الصلاة والسلام أكّدت على كَون شهرِ رمضان مَوْسماً لتلاوةِ كتابِ الله وتَدَبُّرِه وقراءتِه وتدارسُه، حيث ينْبغي أن يُتلى فيهِ القرآنُ الكريمُ أكثرَ من أيِّ وقتٍ آخر، ويُتَدَارسَ فيه كلامُ الله أكثر من أيّ زمنٍ سواه، هكذا كان عملُ رسول الله، مُذ أوّلِ رمضان بعث فيه وعُلِّمَ فيه مطْلعَ سورة العلقِ، إذْ يأتيه جبريل ليُدارسَه القرآن الكريمَ في كلّ ليلةٍ من ليالي شهر رمضان. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ. فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ” [البخاري/رقم:06]. نقل الإمام ابنُ حجرٍ في شرحِه لهذا الحديثِ عن الإمامِ النّوويّ قولَه: “في الحديث فوائد: منها الحثُّ على الجُود في كلّ وقتٍ، ومنْها: الزِّيادة في رمضان وعند الاجتماعِ بأهلِ الصّلاح، وفي زيارة الصُّلحاء وأهل الفضلِ، وتَكرارِ ذلك إذا كان المَزُورُ لا يكرهُه، واستحباب الإكثار في القِراءة في رمضان، وكونُها أفضلَ من سائرِ الأذكارِ، إذ لو كانَ الذِّكر أفضلَ أو مُساوِيا لفعلاه ” [6].
وبهذِه السُّنّة اقتدى السّلف الصّالح من عُلماء الأمّة وصُلحائها، فَقد رُوِي عن إمام دار الهجرة مَالك بنِ أنس رحمه الله، أنّه كان إذا دخل شهرُ رمضان أقبل على تلاوةِ القرآنِ أكثرَ من أيِّ عمل آخر، ورُوِيَ عن الإمام الشّافعي رحمه الله أنّه كان يَختِم القرآن الكريم في رمضان زُهاء ستين خَتمة، ومن أهل العلمِ من يختِمه في قيام ليلةٍ واحدة من ليالي شهر رمضان، والنّماذج في هذا الباب كثيرةٌ وتُذكر في كُتب المنَاقب.
المظْهرُ الثّالث: القُرآنُ والصِّيامُ، وأثَرهما في تَزْكيّة النّفسِ وتَحسِينِ سُلوكِ المُسلمِ.
لقد فرضَ الله تعالى صيامَ شهرِ رمضانَ على المُسلمين، وبيَّن لهم الحِكْمةَ من ذلك، وهي مُتَمثِّلةٌ في أنّ الصيام يُؤدي إلى تَقوى الله تعالى وخَشيتِهِ ودَوام مُراقبتِه في السِّر والعلانية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة/182]، قال سيد قُطب رحمه الله: ” فالتّقوى هي التي تَسْتَيْقِظُ في القلوب وهي تُؤدّي هذه الفريضةِ، طاعةً لله، وإيثاراً لرِضاه. والتّقوى هي التي تَحْرُسُ هذه القُلوبَ من إفسادِ الصّوم بالمعصية، ولو تلك التي تَهْجِسُ في البال، والمخاطَبُون بهذا القُرآن يعْلَمون مَقام التّقوى عند الله، ووَزنَها في ميزانِه. فهي غايةٌ تَتَطلّع إليها أرْواحُهم. وهذا الصّوم أداةٌ من أدواتِها، وطريقٌ موصلٌ إليها. ومِن ثمّ يرفعُها السِّياق أمام عُيونِهم هدفاً وَضِيئاً يتّجهون إليه عن طريق الصّيام”[7]
وإنّ القرآنَ الكريم الذي أمر الله تعالى ورسولُه بتلاوته ومُدارستِه في ليالي رمضانَ وأيّامه، يُؤدي هُو الآخر إلى التّقوى، كما يؤدي إليها الصّيام تماماً، قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، فيحصُل التّكامل المَقاصِدي بين صِيام شهر رمضان وتلاوة القُرآن فيه. وهذا يعني أنّ شهرَ رمضان توفّرت فيه كلُّ شروطِ الفلاح وسائرُ فرص الفوزِ، لِمن رام ذلك بقلبه ونَشَده بِعملهِ، كيف لا وقد فُتِّحَت فيه أبوابُ الجنّة وغُلِّقت فيه أبواب جهنم وصُفِّدت فيه الشياطين.
وإنّ من مقاصد الصّيام وتلاوة القرآن أيضا -فضلا عن التقوى- تحسينُ سلوكِ الأنسان المسلم بِحضِّه على التحلِّي بالخُلق الجميل والزّيادة فيه، وحثِّه على التّخلِّي عن كلّ سوءٍ من الأقوالِ والفِعالِ، وهذا يُمكن استنباطه من حديث ابن عباس رضي الله عنه – الذي سبق ذِكره- حيث قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ). إنّ صِفة الجُود من الصِّفات الجِبِلِّيَّة اللازِمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الدّوامِ حيث كان يُعطي عطاءَ من لا يَخْشى الفاقَةَ، لكن جُودُه بالخير يزداد في شهر رمضان، شهرِ الصّيام والقرآن.
إنّ الصّيام وذكرَ الله تعالى بتلاوة القرآن من الأعمال الجَليلة التي تُورث الإنسانَ خشية الله تعالى وتقواه وتَهديه إلى جَميل الخُلق وأزكاه، وإّن من تِلك الأخلاق العظيمة التي يؤديان إليها خُلُق العِفّة المانع من الوقوع في الزِّنا وما قرّب إليه من قول وعمل، فقد قال تعالى: (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) فقد جعل الله تعالى في الآية الكريمة خُلق حِفظِ الفروج الذي هو العِفة وسطا بيْن الصّيام وذكرِ الله، عِلما أنّ أفضل الذِّكر هو تِلاوة القُرآن، ذلك أن خلقَ العفّة ثمرةُ الإثنين معاً (أي الصيام وتلاوة القرآن) وقد دلّت على هذا المَعنى نصوصٌ شرعية أخرى، منها قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) وقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ).
كما يَدعو الصّيام أيضا إلى نَبذِ السّوء والفُحش من القَولِ والفِعل، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)[البخاري/رقم:1903] .
المظْهَر الرّابع: القُرآنُ والصّيامُ شَفِيعان للعبْدِ يومَ القيامةِ.
لقدْ ميّز الله تعالى تِلاوةَ القُرآنِ وصيام شهر رمضان عن غيرهِما من الأعمال الصّالحةِ، فوعد القائمَ بهما حقّ القيام بثوابٍ عظيمٍ وأجرٍ كبيرٍ؛ من ذلك أنْ جعلهما شفيعين تُقبل شَفاعتُهما لديهِ سبحانه يوم القيامة، ففي الحديث عن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصِّيام والقُرآن يَشفعان للعبدِ، يقول الصِّيام: ربِّ إنّي منعتُه الطعامَ والشّهواتِ بالنّهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآنُ: منَعتُه النّوم بالليل، فَيُشَفّعان) [المستدرك/رقم:2036].
وقد وعدَ اللهُ تعالى صاحِب الصِّيام المَبرور، الذي لم يَرفُث في يومِ صيامه ولم يصْخَب فيه بالثّواب الأعظم والجزاء الأجزلِ، إذ يتولّى اللهُ تعالى وحده مكافأته بكيفيةٍ تختلف عن الأعمال الصّالحة الأخرى. وقد ثبت في الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله عن ربه إذ يقول: (كل عملِ ابنِ آدم لهُ إلّا الصّومَ فإنّه لي وأنا أجْزِي بِه) [البخاري/رقم:1904]، وهذا الفضْل الكبيرُ الذي ينالُه الصّائمُ من لدُن ربّه وهو يُدْعى إلى بابِ الرّيّان الذي لا يَدخُل منْه إلا الصّائمون، ينالُ معه فضْلا آخر إن كان ممّن يَقرأ القُرآن الكريم ويُرتِّله، حيث يُقال له اقرأ وارتَق ورتِّل كما كنْت تُرتِّل في الدّنيا فإنّ منْزلتَك عنْد آخر آيةٍ تقرأُها، فما زال يرتقي في الجنّة، ومنزلتُه تَعلو حتى يكونَ مع المَلائكة تماماً، مع السَّفَرة الكِرام البَررة. فما أجلّه من مَقام وما أعظَمه من جزاءٍ، ذاك الذي أعده الله تعالى لصائم شهر رمضان حق الصّيام وقارئِ القُرآن المُتَدَبِّر له في شهر القرآن، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
الهوامش:
[1] التحرير والتنوير، ج:1/ص:225.
[2] التحرير والتنوير، ج:2/ص:172.
[3] في ظلال القرآن، ج:6/ص:3945.
[4] سيرة ابن هشام، ص: 111 (بتصرف).
[5] مفاتيح الغيب، ج5/ص:90-91.
[6] فتح الباري، ج:1/ص:66.
[7] في ظلال القرآن، ج:1/ص:168.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.