المساءلة جزء لا يتجزأ من الحكم الرشيد وهي دعامة للحكم الديمقراطي الحقيقي والفعال. إن المؤسسات القوية والمنتخبة ديمقراطياً والتي تتمتع بالصلاحيات والوسائل المناسبة لمحاسبة من هم في السلطة، ضرورية للديمقراطية حتى يكون لها معناها الحقيقي المتمثل في “حكم للشعب”.أضف إلى هذا أن دور مؤسسات الرقابة المستقلة والقوية هي إنتاج تقارير دورية تحمل معطيات حقيقية حول كيفية استخدام الموارد العمومية من قبل الحكومات المحلية والوطنية وهي تقارير تستعملها البرلمانات والرأي العام في عملية ممارسة المساءلة. من جانبها، تلعب وسائل الإعلام المهنية والمستقلة وكذلك منظمات المجتمع المدني القوية والمدبرة تدبيرا جيدا دورًا رئيسا في إخبار وتعبئة الرأي العام والمجتمعات للمطالبة بالمساءلة. كلما زاد إشراك ومساهمة المواطنين في التدبير على المستوى المحلي، كلما زاد شعور أولئك الذين يتولون أمر تقديم الخدمات لهم بأنهم مسؤولون أمامهم. يضع البنك الدولي قائمة بمؤشرات الحكامة يتم تجميعها في ستة أصناف وهي: 1. الصوت والمساءلة ؛ 2. الاستقرار السياسي وغياب العنف؛ 3. فعالية ونجاعة العمل الحكومي 4. الجودة التنظيمية ؛ 5. سيادة القانون؛ 6. ومكافحة الفساد. وتركز معظم المؤشرات التي تشتمل عليها كل مجموعة حول جعل المواطنين في قلب نظام الحكامة، مع التركيز على الشفافية وتحسين الفعالية في الأداء وتقديم الخدمات ذات الجودة، وكلها سمات أساسية لقضية المساءلة. والمساءلة هي وجه من أوجه الحكم الرشيد. إن مساءلة من هم في السلطة (الذين ينتخبون بطرق ديمقراطية أو يتم اختيارهم عبر عمليات شفافة) يعني قياس أدائهم مقابل أهداف وغايات محددة وحسب قواعد ومعايير موضوعية، وقياس كفاءة وفعالية استخدامهم للموارد الموضوعة تحت تصرفهم لتنفيذ مهمتهم. هكذا يحاسب المواطنون من يمثلونهم عند التصويت لصالحهم أوضدهم؛ ويستدعي أعضاء المجالس المحلية والبرلمانيون الحكومات المحلية أو الوطنية للرد على تساؤلات ممثلي الساكنة المحلية وممثلي الشعب؛ من جانب آخر، تحقق هيئات الرقابة المالية المستقلة في مدى اتباع الإدارة المالية للقواعد والمعايير المحددة. لكن المساءلة تعني “صوت المواطن” أيضًا ؛ و”الصوت” هنا يقتضي منح المواطنين والمجتمع المدني ووسائل الإعلام الحق والفضاء والحرية للتعبير عن مخاوفهم ومراقبة التنفيذ وتقديم وجهات نظر معارضة. “المساءلة المؤسسية” و “صوت المواطنين” وجهان رئيسان متلازمان لعمليةالمساءلة؛ في الواقع، كلما كان كلاهما قويًا، فمن المحتمل جدا أن تتحسن المؤشرات الأخرى الموجودة على مستوى الحكامة أيضًا. الكتاب الذي قمت بإعداده مؤخرًا بعنوان “مساءلة الحكومات من طرف الشعب: آليات، ومبادي وممارسات حسنة” يتعلق بمبادئ وأدوات وممارسات المساءلة في مختلف البلدان وفي سياقات مختلفة؛ تمت كتابة الأجزاء التي تم تضمينها هذا العمل من قبل برلمانيين في جلها، بالإضافة إلى مقالات من طرف خبراء (من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي و والمنظمة العالمية للتنمية والشبكة البرلمانية حول البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها) وممثلي القطاع الخاص والمجتمع المدني وأشخاص ذاتيين. هذه ليست دراسة شاملة للمساءلة تحتوي فقط على آراء الخبراء في هذه المسألة. إنها مجرد مجموعة من وجهات النظر المختلفة من قبل “ممارسي السياسة” وأكاديميين وغيرهم من الأفراد حول “أسباب” و “كيفية” المساءلة في علاقتها مع الحكم الرشيد. ويشتمل الكتاب على بيانات نظرية بالإضافة إلى تحليلات لحالات معينة، بعضها نقدي ، في حين أن البعض الآخر وصفي بحت يعرض النجاحات والممارسات الجيدة. وقد تم تضمين خمسة مجالات رئيسة فيما يخص المساءلة: الاعتبارات النظرية، الرقابة المالية، دور البرلمان، الحاجة إلى الوصول إلى المعلومات، المساءلة الاجتماعية ومشاركة المواطنين، الإعلام والمجتمع المدني، وأخيرا دور التحالفات والمؤشرات العالمية. مقدمات “فلسفية”: هناك حاجة إلى مزيد من مساءلة من هم في السلطة؛ خلاف ذلك، ستستغل قوى الشعبوية وغيرها من القوى المتطرفة الإحباط المتزايد للشباب والطبقات الوسطى لطرح طرق بديلة تشكل خطراً على الديمقراطية والأمن العالمي على حد سواء. لا ينبغي أبدا أن ننسى شبح الثلاثينيات من القرن العشرين. يجب أن تكون السياسة ذات صلة بحياة الناس وخاصة الأجيال الصاعدة التي تتعرض للضياع عندما يرون كبار السن يشاركون في ممارسة الخوف، وهو خطاب يتناقض مع ما يتعلمونه عادة في المدرسة. الوصول إلى المعلومات في سياق حرية التعبير هو مفتاح تأسيس ثقافة الشفافية والمساءلة (طالب الرفاعي، الأردن). إن أحد الركائز الأساسية للحكم الديمقراطي هو الحاجة إلى إخضاع الممثلين المنتخبين أنفسهم لفحص المساءلة (آرثر موريلو، المنظمة العالمية للتنمية). لهذا فالديمقراطية بدون محاسبة قد تؤدي إلى نوع من الديماغوجية الشعبوية. من ناحية أخرى، ترتبط المساءلة ارتباطًا وثيقًا بالثقافة. على سبيل المثال، يتم دمج القيم التقليدية في شرق آسيا ضمن واجبات المجموعة للحفاظ على هوية العمل في تفاعل مع جميع الجهات الفاعلة المعنية لجعل المساءلة مصدر قلق يومي (المصطفى الرزرازي، المغرب). الرقابة المالية: الشفافية المالية أمر بالغ الأهمية لإدارة المالية العامة والحكم الرشيد. تتطلب مساءلة الحكامة برلمانات قوية وهيئات تدقيق مستقلة، وسهولة الوصول إلى المعلومات الجيدة ونشرها في الوقت المناسب ( ألفا شاه وصاليندرا باتنياك، صندوق النقد الدولي). لكن يجب أن تتجاوز الرقابة نشر التقارير حول استخدام الموارد لتشمل التنبؤات وتحليلات الاقتصاد برمته وسوق العمل بالإضافة إلى الرقابة على الأسواق المالية (ليام بيرن، المملكة المتحدة). إن تبسيط الفارق الزمني بين دورة تقارير هيئات التدقيق وحاجة البرلمان إلى عقد جلسات استماع منتظمة حول المساءلة المالية أمر ضروري لضمان الانتظام في الرقابة (إدريس الصقلي، المغرب). بالإضافة إلى ذلك ، تتطلب جهود مكافحة الفساد وجود نظام عادل مع فصل حقيقي للسلطات وتعريف واضح للأدوار والمسؤوليات (شمسول إسكندر، ماليزيا). التوفر على المعلومات شرط أساس: الأسئلة الشفوية وتقارير التدقيق والمراجعة وقانون الولوج إلى المعلومات وغيرها هي بعض الأدوات المتاحة للبرلمانيين للوصول إلى المعلومات التي تساعدهم على مساءلة الحكومة (بيرسي داون، كندا). إن وجود نظام قوي لإدارة السجلات هو في صميم نظام المساءلة وتعزيز دور المواطنين هو مفتاح فعاليته؛ ومع ذلك ، فإن خطر الإفراط في المؤسسات قد يثقل كاهل العملية (أنيل ضاس، البنك الدولي، الهند). يجب أن يكون النظام صارما وفعالًا ومرنا قدر الإمكان. من ناحية أخرى ، فإن تعزيز دور المعارضة في الأنظمة البرلمانية يساعد في إعطاء صوت للآراء الناقدة داخل البرلمانات والوصول إلى المعلومات التي يتعذر الوصول إليها بطريقة أخرى (إلفيرا كوفاش، الأقلية الهنغارية، صربيا). دور البرلمانات: في عالم رقمي للغاية وسخط عارم على النخب والسياسيين، هناك حاجة إلى أشكال جديدة من المساءلة. تساعد المساءلة في تقديم أشكال مختلفة من الضوابط والتوازنات بين مختلف فروع الحكومة (فالنتينا مارتينيز، إسبانيا). إن وظيفة البرلمان، من ضمن أمور أخرى، هي مراقبة وضمان تنفيذ السياسات العامة بفعالية من قبل السلطة التنفيذية (بولين ندوموي، الكاميرون). كلما كانت البرلمانات أقوى، كلما أصبحت أكثر قدرة على العمل كصوت للشعب، وجعل الحكومة تستجيب لحاجيات الناس ومصالحهم. المساءلة عبر صناديق الاقتراع: تُمكّن الانتخابات الناخبين من اختيار القادة ومحاسبتهم على أدائهم في السلطة عن طريق التصويت عليهم (أو عدمه). وتجعل الانتخابات الدورية الناجحة المساءلة شكلاً من أشكال المراجعة الدورية الشعبية للإنجاز؛ بالإضافة إلى ذلك، فإن الدور الممنوح للمعارضة هو نوع من التفويض لجماعة سياسية معينة للتحقق من أداء من هم في الأغلبية فيما بين الانتخابات (نوال الهواري، المغرب). إن تراجع ديناميكية البرلمان سبباً ونتيجة في الوقت نفسه لعدم فعالية البرلمان. وقد تؤدي الانقسامات السياسية داخل الأغلبية إلى إضعاف البرلمانات وجعلها أقل قدرة على مراقبة العمل الحكومي (يونس كريم، جنوب إفريقيا). المساءلة الاجتماعية وإشراك المواطن: يحتاج المواطنون إلى أدوات، بالإضافة إلى الانتخابات، لمحاسبة من هم في السلطة عن خدمتهم للسكان (كانيشكا بالتسوريا، سري لانكا، البنك الدولي). وينطوي إشراك المواطن على جعل المواطنين شركاء في التنمية من التخطيط إلى التصميم والتنفيذ، حتى التتبع والمراقبة. تتبع “مشاركة المواطن” الحقيقية هو مفهوم من مفاهيم “الديمقراطية المباشرة” كمكمل ل “الديمقراطية التمثيلية” (لحسن حداد، المغرب). وسائل الإعلام ، المجتمع المدني ، الحركات الاجتماعية – الطلب على المساءلة: تلعب وسائل الإعلام دائمًا دورًا مهما في الحكم الرشيد. وتعد وسائل الإعلام عالية الجودة والصادقة المعلومات والمسؤولة ضرورية للديمقراطية، خاصة في عصر الفايكنيوز (جيريمي ليفروي، المملكة المتحدة). إن كل شيء ممكن مع الديمقراطية، طالما أن هناك حرية تعبير (ألفة سكوري شريف، تونس). من ناحية أخرى، يمكن أن يساعد المجتمع المدني في تطوير أدوات ملموسة للتعاون بين المجتمعات المحلية وأصحاب المصلحة الآخرين لضمان سماع صوت المواطن (أولغا بيلكوفا، أوكرانيا، وسعاد الزايدي، المغرب). التحالف والمبادرات الجماعية: كان الاتفاق المكسيكي للسياحة بمثابة عملية لبناء الإجماع ووثيقة فعالة في رصد الإجراءات مقابل مؤشرات تجعل الجميع مسؤولا عن الإنجاز (غلوريا جيفارا، المكسيك والمجلس العالمي للسفر والسياحة). من ناحية أخرى، يقيس مؤشر ريكيافيك للقيادة مواقف الناس تجاه الرجال والنساء في أدوار القيادة. وتُعطي البيانات فكرة عما يجب استهدافه لتغيير المواقف. إنه مصدر يساعد في بناء المساءلة في مجال المساواة في القيادة بين الجنسين (سيلفانا كيتش ميهرين، ألمانيا). تم تصميم هذا الكتاب حول “محاسبة الحكومات من طرف الشعوب” لمساعدة صانعي السياسات والبرلمانيين ووسائل الإعلام والجهات الفاعلة في المجتمع المدني على فهم تعقيدات المساءلة والحكم الرشيد والتعرف على الأدوات المختلفة المتاحة لهم لتحسين عملهم في سياقاتهم السياسية والثقافية المختلفة. وهو عبارة عن مجموعة واسعة من الخبرات والممارسات وتمثل آراء العديد منالخبراء والممارسين في مختلف البلدان والمنظمات والثقافات. وهولا يمثل بأي حال غنى ممارسات المساءلة في مختلف المناطق؛ تجارب أمريكاالجنوبية وآسيا الوسطى وأوسيانيا وشرق إفريقيا إما غير ممثلة أو غير ممثلة كما ينبغي. لكن الفكرة لم تكن إنتاج مجموعة من الأدبيات الموزعة جغرافيا أو سياسيا حول المساءلة. كان الهدف هو العثور على الأفراد الذين يرغبون في المشاركة بأفكارهم وتجاربهم بشأن الممارسات الجيدة والحاجة إلى تحسين النظم، بطريقة تساعد الآخرين في سياقات أخرى على التفكير في تجاربهم واحتياجاتهم. المساءلة هي الوسيلة الوحيدة لاستعادة القلوب والضمائر في عصر الشك وعدم الثقة ونشوء الحلول السهلة والشعبوية التي تقوض أساسيات الديمقراطية والحكم من قبل الشعب. إن تحسين الحكم يضمن استدامة الديمقراطية ويضمن تحسين خدمة المواطنين الذين يمثلون أصحاب المصلحة والمستفيدين الرئيسيين من عملنا كسياسيين وممارسين وخبراء وناشطين.