تتبع الرأي العام خلال الأسابيع الأخيرة خرجات إعلامية متواترة لبعض الفاعلين الحزبيين والمؤسساتيين، بخصوص حجم الدين العمومي بالمغرب، ونسبته الحقيقية مقارنة مع الناتج الداخلي الخام، وكذا مدى خطورته على المالية العمومية وعلى الاقتصاد الوطني. وإذا كان الدين العمومي في حد ذاته يعتبر بمثابة موارد مالية استثنائية للدولة، فإن الرأي العام عادة ما يأخذ انطباعا سلبيا حول هذا الموضوع دون أن أن يوتزي ذلك نقاش حقيقي حول وظيفته ودوره الاقتصادي والمالي في جميع الأنظمة الاقتصادية المتقدمة. وتحاول هذه الخرجات ترسيخ هذا الانطباع السلبي وإثارة مخاوف غير حقيقية حول مخاطر نسبة الاستدانة بالمغرب، وهنا يتعين الوقوف من جهة على المجهودات الحكومية المبذولة منذ عدة سنوات لترشيد التدبير المالي العمومي لتفادي أية مخاطر من هذا النوع، والتي نجح فيها المغرب بشكل كبير مما أدى لتحسن مؤشراته المالية والجاذبية الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة. ومن جهة ثانية يتعين التركيز على احترام المغرب حاليا للقواعد الذهبية للتدبير المالي العمومي، وهي القواعد المحددة لمؤشرات الصحة المالية للدول في مختلف التجمعات الاقتصادية، ولم تستطع عدد من الدول الأوربية نفسها احترامها أو الالتزام بها بشكل صارم. أسباب ارتفاع حجم الدين العمومي بالمغرب. إذا كان اللجوء للاستدانة يعتبر بمثابة المقابل الحسابي والمالي لعجز الميزانية، فإن لجوء المغرب خلال الفترة من 2002 إلى 2009 لموارد استثنائية أخرى كان يستهدف بشكل أساسي تمويل العجز الميزانياتي، ويتعلق الأمر بموارد الخوصصة التي ضخت أزيد من 100 مليار درهم خلال عشر سنوات متتالية، تم توجيه جزء كبير منها لأداء نفقات التسيير وليس فقط للاستثمار كما كان مقررا. فقد كانت محاولات حكومة اليوسفي تقليص عمليات اللجوء للدين الخارجي تصطدم بإكراهات تمويل الميزانية (وبشكل خاص نفقات التسيير)، خاصة في ظل عدم كفاية الموارد العمومية لتغطية التكاليف العادية، وهو ما جعلها تبدأ في تكثيف عمليات الخوصصة من جهة، ومن جهة ثانية تحويل جزء من الدين الخارجي لاستثمارات. ومنذ سنة 2000 تم اللجوء بشكل مكثف لهذه الموارد الاستثنائية لتمويل الميزانية العامة، وتمت خوصصة الجزء الأكبر من المقاولات والمنشآت العمومية لمواجهة عجز الميزانية والتخفيف منه، وذلك في محاولة لتفادي اللجوء للاستدانة، إضافة إلى إبرام اتفاقيات دولية لتحويل الديون إلى استثمارات. وقد نجحت نسبيا حكومة عبد الرحمن اليوسفى في تقليص نسبي لوتيرة اللجوء للدين العمومي (الخارجي بشكل خاص)، وذلك عبر آلية الخوصصة التي ضخت أزيد من 30 مليار درهم في الميزانية خلال السنوات الأولى، وتمت تغطية جزء كبير من نفقات التسيير من هذه الموارد بما يعتبر إخلالا بقواعد الترشيد المالي، في حين لم يتراجع عجز الميزانية بشكل ملحوظ خلال نفس الفترة. وبالنظر لعدم قدرة الحكومات السابقة عن القيام بإصلاح استراتيجي لطرق تدبير المالية العامة، فقد بدت الصعوبات المالية منذ سنة 2005، على الرغم من أن ميزانية الدولة عرفت سنتين استثنائيتين (2007 و2008). فأمام تدفق موارد الخوصصة، وفي ظل غياب اية استراتيجية لإصلاح التدبير المالي العمومي، ازدادت وتيرة ارتفاع نفقات التسيير بشكل أسرع من تطور الموارد العادية.فتطور الموارد العمومية كان بنسبة 12 بالمائة، في حين أن ارتفاع نفقات التسيير كان يسير بشكل أسرع وقارب زيادة بنسبة 20 بالمائة، في حين استقرت نفقات الدين العمومي ولم تنخفض كما كان متوقعا، وعرفت نفقات الاستثمار انخفاضا طفيفا عوض أن تعرف زيادة كبيرة كما هو مفترض في مثل هذه الحالة. ومع بداية الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، تفاقمت الصعوبات المالية التي كانت تعرفها ميزانية الدولة بشكل بنيوي، وعادت عمليات الاستدانة لترتفع بشكل مطرد نتيجة عجز الموارد العادية للدولة عن تغطية التكاليف الضرورية، خاصة وأن نفقات الدين العمومي كانت في ارتفاع منذ سنة 2005، مما يدل على أن كرة الثلج بدأت بالفعل في التضخم. فبعد خفوت عمليات اللجوء للخوصصة، بدأت وتيرة اللجوء للاستدانة لتغطية عجز الميزانية منذ سنة 2009. وأية زيادة في حجم الاستدانة كان يؤدي من جهة لارتفاع تكاليف الدين العمومي على مدى 10 سنوات الموالية للسنة التي تمت فيها الاستدانة، ومن جهة ثانية لمزيد من الارتهان للموارد الاستثنائية لتغطية التكاليف الإلزامية. وعلى هذا الأساس، لا يمكن اعتبار حكومة د سعد الدين العثماني مسؤولة فعلا عن ارتفاع حجم الدين العمومي، بل يحب لها ترشيد التدبير العمومي من أجل تطبيق أهم القواعد الذهبية للمالية العمومية، خاصة وأنها حرصت على إبقاء نسبة الاستدانة في درجات مقبولة بعيدا عن مخاطر نزيف المالية العمومية. وبعد أن كان المعدل السنوي للجوء لموارد الدين العمومي يستقر منذ سنوات طويلة في 75 مليار درهم، وكان جزء كبير منه يوجه لتغطية نفقات التسيير، نجد أن الحكومة الحالية حرصت بشكل أساسي على توجيه موارد الدين العمومي بشكل كامل لتغطية جزء مننفقات الاستثمار العمومي، وهذا هو الأصل الاقتصادي من الاستدانة، وهو أحد أسس القواعد الذهبية لتدبير المالية العمومية. النجاح في تطبيق القواعد الذهبية للمالية العمومية: في الوقت الذي لا زالت عدد من الدول الأوربية تعانيمع تأثيرات الأزمة المالية العالمية، وذلك نتيجة هشاشة بنيتها الميزانياتية، يلاحظ عجزها عن التحكم في تضخم حجم المديونية لديها رغم الدعم الكبير للبنك المركزي الأوربي. فقد عانت دول مثل إسبانيا والبرتغال وإيرلندا مع القواعد الصارمة التي فرضها عليها الاتحاد الأوربي، في حين لا زالت دول أخرى بعيدة عن الالتزام بالقواعد المالية والميزانياتية التي التزمت بها (اليوانا وإيطاليا). وفي المغرب بدأ التنزيل الفعلي لعدد من هذه القواعد الذهبية منذ سنة 2016 على إثر بداية تنفيذ القانون التنظيمي الجديد للمالية، خاصة في شقه المتعلق بالتوجيه الصارم لموارد الدين العمومي لتمويل الاستثمار العمومي، وهو ما يمكن القول بأن الحكومة نجحت فيه بامتياز، مما جعل مؤشرات صحة المالية العمومية تعرف تقدما متواترا منذ سنوات. فمن جهة، وخلافا لما يتم تسويقه إعلاميا، فإن حجم دين الخزينة يستقر حاليا في أقل من 65% وهي نسبة جد معقولة وإيجابية بقياس المؤشرات المالية العالمية. ولا يمكن في هذا الإطار اعتماد مؤشرات غير حقيقية لخداع الرأي العام وإدخال معطيات مغلوطة ضمن الحسابات العمومية لتوهيم المواطنين بوجود مخاطر غير واقعية. ومن جهة ثانية، وباستقراء لتطور المالية العمومية بالمغرب، نقف على تطور إيجابي حقيقي خلال السنوات الأخيرة، مكَّن المغرب من إدراج أهم القواعد الذهبية في هذا الإطار، والمتعلقة بتوجيه الدين حصريا لتمويل الاستثمار، وهو أمر مطلوب وإيجابي في علم المالية العمومية، ولا يتسبب في أية مخاطر اقتصادية، خلافا لما يحاول البعض ترويجه. فبعد أن عانت المالية العامة من نزيف خطير خلال فترات الحكومات السابقة منذ سنة 2000 وإلى غاية 2013 (باستثناء سنتي 2007 و2008)، والتي تمت تغطيتها جزئيا بالخوصصة من قبل الحكومات المتعاقبة، عادت المؤشرات خلال السنوات الأخيرة لتستقر بشكل إيجابي بعد أن كانت تمثل مخاطر مالية واقتصادية حقيقية على المملكة. فخلال سنة 2010 مثلا كانت الموارد العادية لا تتعدى 174 مليار درهم، في حين كانت نفقات التسيير تقارب 200 مليار درهم، وتم خلالها اللجوء للموارد الاستثنائية وخاصة الاستدانة لتغطية جزء من نفقات التسيير، وهو من أخطر المؤشرات على نزيف المالية العمومية. وفي المقابلتم تمويل الاستثمار العمومي بجزء يسير من موارد الدين العمومي خلافا للقواعد الاقتصادية المتعلقة بوظائف الاستدانة. وخلال سنة 2011 بلغت الموارد العادية للميزانية 190 مليار درهم، مقابل نفقات التسيير التي تجاوزت 233 مليار درهم، وكانت حاجيات التمويل تفوق 93 مليار درهم، في حين أن نفقات الاستثمار لم تكن تتعدى 50 مليار درهم آنذاك، بما يفيد أن الحكومة لجأت للدين العمومي لتغطية جزء كبير من نفقات التسيير، وهو مؤشر يدل على استمرار مؤشرات نزيف للمالية العمومية. واستمرت نفس الوضعية للسنوات اللاحقة قبل أن تتمكن الحكومة تدريجيا من ترشيد التدبير المالي العمومي، ونجحت بشكل فعال في تطبيق أهم القواعد الذهبية التي تؤشر على صحة المالية العمومية، وذلك بخصوص توجيه موارد الدين العمومي لتمويل الاستثمار العمومي بشكل حصري، بما يمكن الاقتصاد الوطني من الاستفادة من دينامية هذا الاستثمار دون التعرض لمخاطر نزيف المالية العمومية. فخلال سنة 2018 التي تم حصر حساباتها المؤقتة، نجد أن الموارد العادية ارتفعت بشكل إيجابي لتصل إلى 267 مليار درهم، في حين أن نفقات التسيير لم تتجاوز 237 مليار درهم، بمعنى أن هذه الموارد العادة استطاعت تمويل أزيد من نصف نفقات الاستثمار، ولم يتم اللجوء إلى الدين العمومي إلا بشكل استثنائي لتمويل شطر من الاستثمار العمومي. وهذا الترشيد استطاع من جهة أن يجنب المغرب مخاطر إغراق البلاد في الاستدانة لتمويل نفقات التسيير (كما كان سائدا إلى حدود سنة 2014)، ومن جهة ثانية تحسين جاذبية المغرب الاقتصادية ومؤشرات صحته المالية، وهو شرط أساسي لاستقطاب الاستثمارات المنتجة للثروة وللقيمة المضافة ولمناصب الشغل. ولا يعتبر تحسن تصنيف المغرب لدى المؤسسات المالية الدولية اعتباطيا ،وإنما نتيجة مجهودات تشريعية وتدبيرية حقيقية، استطاعت من خلالها الحكومة إعادة إطلاق دينامية اقتصادية فعلية، مقابل التحكم في التوازنات الضرورية لتجنيب المغرب أية مخاطر محتملة في المستقبل. وإذا كان البعض يحاول، عن جهل أو عن سوء نية، تسويق معطيات غير حقيقية مرتبطة بالدين العمومي، فإن ذلك يعتبر جزءا من سلسلة من محاولات تبخيس التدبير الحكومي وترسيخ صورة انطباعية غير حقيقية لدى الرأي العام، بعد أن باءت جميع المحاولات السابقة بالفشل على هذا المستوى. لكن ذلك لا يمنع من حث الحكومة على اعتماد استراتيجية واضحة لتجنيب المغرب مخاطر أية هزات اقتصادية ومالية محتملة مستقبلا نتيجة التحولات الجيوسياسية التي يعرفها العالم، ومخاطر الصراع الإقليمي والدولي، وعدم قدرة الاتحاد الأوربي على تجوز أزمته المالية والاقتصادية بشكل كامل.