يمر الحراك الجزائري هذه الايام من عنق الزجاجة بانتظار الجمعة التاسعة التي تتسمر عليها منذ الان عيون الملاحظين والمتتبعين لهذه الموجة الجديدة للربيع العربي بغية معرفة النتيجة التي سيؤول اليها شد الحبل بين الجيش والشعب حيث لازال الجزائريون يتارجحون الى الان فيما يشبه مباراة تحبس الانفاس بين قبول الحل الدستوري الذي فرضه القايد صالح بتنصيبه لرئيس مجلس الامة بنصالح خلفا لبوتفليقة الذي تمت استقالته.وذلك وفقا لمنطوق المادة102 . والحل السياسي الذي يتبناه الحراك عبر شعاراته وهتافاته ، والذي يدعو الى قلب الطاولة على كل أزلام النظام والبدء من جديد بوضع اللبنات الاولى في اطار جمهورية بحلة دستورية اخرى . والحقيقة ان هذا الصراع الصامت الذي يجري بين الشعب والجيش بشكل غير مباشر فوق ملعب الدستور ،ماهو الا مظهر جديد لاشكالية قديمة لم تحسمها الامة العربية يوما ما تتجلى في اشكالية النقل والعقل مع فارق بسيط كونها تجري هذه المرة بخصوص النص الدستوري . اذ بينما يرى القايد صالح ووراءه كل المؤسسة العسكرية ضروررة الالتزام بالنص الدستوري، ترى الاطياف المكونة للحراك ان الثورة قد خلقت وضعا مغايرا يجب كل ماقبله بما في ذلك هذا الدستور الذي ينبغي ان يوضع في خزانة التاريخ جنبا الى جنب مع كل رموز ورجال النظام الذي قامت الثورة أساسا لأجل اجتثاثه . وهكذا، وبتوالي الاحداث ،ودخول شخوص جدد الى حلبة الصراع، تتضح الصورة أكثر، وتبدو اكثر نصوعا بخصوص اطراف الصراع الحقيقيين : فرغم ان قايد صالح استطاع ان يتحكم بكل الخيوط الى الان وان يتجاوب مع نبض المجتمع ويقتعد لنفسه مقعد الحكم بين الجماهير الميليونية والعصابة التي سماها والتي يقول انه قد قرر طردها الا ان اصراره على تطبيق المادة 102 من الدستور ودعوته للالتزام الحرفي بالدستور خوفا مما اسماه بالفراغ المجهول يجعله يقف في وجه رغبة جامحة تملك على الثوار عقلهم وكيانهم .القضاء على النظام. مما لايمنع هؤلاء المتظاهرين من توجيه مطالبهم له باعتباره الممسك الحقيقي بتلابيب القوة المادية المتجلية في سلطة الاكراه التي تستطيع ان ترسم في النهاية مسار الثورة الجزائرية من خلال المفاضلة بين الانقياد لها او معاكستها والتصدي لها . الواضح ان الشعب الجزائري الذي حافظ على هدوئه منذ 22 فبراير الى الان يتعامل بذكاء وعقلانية بل ويتغافل ويأجل المواجهة مع الجيش لانه لا يتمناها ولا يريد ان ينجر لها . فلحد الان يتفاعل الشعب ويثور في وجه المناورات الدستورية فقط نائيا بنفسه عن الاحتكاك المباشر بالعسكر لان الذكريات الأليمة للعشرية السوداء لازالت عالقة بذهنه ولانه فوق ذلك لايريد ان يكون البادئ بالفتنة لا قدر الله . وهذا من ضمانات هذه الفترة العصيبة . لقد نما في ظرف وجيز نقاش دستوري محتدم على ضفاف هذا الحراك الذي يبدو انه قوي و طويل النفس حول مدى صلاحية وتناسب هذه اللحظة الفارقة مع الانصياع الاعمى والالي للمقتضيات الدستورية؟ ويطرح سؤال إن كان الأمر يتطلب في مثل هذه الظروف الثورية الخروج من جبة الدستورونهج مسار مختلف يستجيب للمستجدات السياسية . ان هذا النقاش الذي سيطر على البرامج الحوارية في مختلف الفضائيات، نرى انه لن يحسم باجتهادات فقهاء القانون الدستوري ولا بتأويلات السياسيين والاعلاميين بقدر ماستحسمه موازين القوى على الارض . ورغم ما يقدمه المحافظون من حجج تبدو وجيهة وملتزمة بنص الدستورلتبرير تولية بنصالح سدة الحكم ، من قبيل ان التنكر للدستور سيضر بالاستقرار ،وان الدستور هو العاصم في مثل هذه الازمات من الفتنة والاصطدام ،وكون ان هذا الرئيس المرفوض يبقى في النهاية رئيسا باختصاصات محدودة موضوعا وزمنا مهمته تسليم السلطة عبر انتخابات نزيهة لرجل الجزائر القادم، ثم ان حكومة بدوى هي لتصريف الاعمال فقط، الا ان دفوعات الجذريين من المحللين بالاضافة الى الاتجاه العام السائد داخل الحراك يملكون من الدفوعات والبراهين ما يجعلهم في الحقيقة الأكثر تساوقا ليس فقط مع روح الثورة وانما ايضا مع روح الدستور. وذلك لعدة اسباب . 1- مجرد قيام الثورة والشروع في قبول اولى مطالبها يعني تحقق الإدانة الشعبية للنظام القائم واسترجاع الامة لسيادتها ولتفويضها حيث يصبح الشعب الثائر مرة اخرى هو المشرع الدستوري الحقيقي . اي ان اللحظة هي لحظة تأسيسية . 2-ان التغيير الذي تبشر به الثورة يبدأ في الحقيقة من المرحلة الانتقالية التي ينبغي ان تخضع لمنطق الثورة الذي يتجاوز بطبيعة الحال النظام الموؤود.فتطبيق الدستور الحالي، و الاصرار على تعيين رجل بوتفليقة، سيؤدي لامحالة الى اعادة إنتاج النظام لأن الانتخابات ستجري في ظل الشروط السالفة وهو الامر الذي سيجهض الثورة ويلتف عليها مما سيحول دون انبثاق جزائر جديدة . 3- إن تطبيق المادة 102 يتم في اطار ازمات عادية توقعها الدستور كوفاة الرىيس او استقالته ….الخ .وليس من عادة الدساتير ان تتصدى لتنظيم الثورات فمن طبع الدستور انه ينظم حياة الجمهورية لا موت الجمهورية وخروج اخرى مختلفة عنها كما يطمح الان الجزائريون . والدستور ينقضي بانقضاء الجمهورية . 4-ومع ذلك لايعدم انصار هذا الاتجاه ان يتأولوا بدورهم كما يفعل الآخرون حتى الدستور الحالي لصالح اطروحتهم فالفصلان 7 و 8 من دستور الجزائر يؤكدان ان السيادة ملك للشعب . وبالتالي وفقا لهما يكون للشعب الذي استرد سيادته وسحب الثقة من كل اركان نظام بوتفليقة أن يخطط لمستقبله كما يشاء سواء من خلال اعلان دستوري بفصول محددة او من خلال حكومة كفاءات وشخصيات محايدة مشهود لها بالنزاهة والاستقامة ونظافة اليد أو هيئة مستقلة للاشراف على الانتخابات الكرة الان في ملعب القايد صالح لأنه قد سبق له في احد بياناته ان اقر بسيادة الشعب. هذا العسكري يناشده الجزاىريون ان يتماهى دائما مع سلميتهم بوصف الشعب هو الحاضنة الاولى للجيش ، وباعتبار المؤسسة العسكرية صمام الامان في مثل هذه المنعطفات الخطيرة من واجبه القايد صالح حسب منطق الثوار ان يرافق ثورتهم ويواكبها من خلال الاستجابة لباءاتهم الثلاثة ويبعد وينهزه الدولة العميقة عن شيطنة الثورة لا من خلال الفزاعة الاسلاموية ولا من حيث توظيف المصائر الفظيعة للثورات السورية والليبية واليمنية لتضييع هذه الفرصة التي قلما يجود بها التاريخ للالتحاق بركب الامم المتطورة . كل من الشعب والجيش يختبر الاخر …. يحاول ان يسبر طاقته على والاحتمال والصبر ومخززنه من الارادة والتصميم قبل انتصار احد المنطقين . ولا ينسى كلاهما ان يبرز نقاط قوته وحلفاءه .الشعب خرج لصالحه القضاة رافضين الاشراف على انتخابات 4 يوليو التي دعا لها بنصالح . بل وخرج لصالحه حتى الحراك السوداني الذي تخلص برباطه من اثنين من الرؤساء البشير وعوض فلم لا يضيف الجزائريون الان وليس غدا بنصالح الى بوتفليقة .من جانب آخر يرى البعض ان السلطة هي التي اخرجت اسلاميين بلحى تشبه لحى بن لادن لترهيب الحراك وتحذيره من منزلقات المغالاة في المطالب الطوباوية والبعد عن الواقعية . ربما يلعب الجيش والشعب حاليا ركلات الترجيح بينهما حيث يحاول كلا الطرفين جاهدا عدم ارتكاب اي خطأ قاتل يعود عليه . لازال الخيط الابيض من الخيط الاسود من الثورة لم يتبين بعد بالجزائر .ولكن على الاقل يبدو ان الامر يتعلق بأطراف عاقلة تحاول ان تتفادى اخطاء من سبقهم ، ولا تنسى ان تتعظ من الماضي القريب ،و تعي جيدا انها في مركب واحدة يفرض عليها ان تبني جزائر اخرى على ارضية صلبة للاجيال الشابة والمقبلة ….جزائر مدنية تنتصر للخيار الديمقراطي بدون ردة او رجعة . آنه اذا رعى الجيش بقوته و بحسن نية الخروج المؤقت من جبة الدستور واكتفى بتهيئة الأجواء للتغيير كما يريد فعلا الحراك ستفلح الجزائر حتما . * استاذ بكلية الطب ودكتور في العلوم السياسية. 1. وسوم