يطرح تعديل مدونة الأسرة في السياق الراهن إشكالات ورهانات جديدة غير مسبوقة، تجعل أمرا مُلحا القيام بمراجعة شاملة وليس مجرد تعديلات جزئية، وذلك لثلاثة أسباب: الأول وجود دستور جديد تمت مراجعته مراجعة شاملة منذ سنة 2011، ما جعل مدونة الأسرة متجاوزة مقارنة بالقانون الأسمى للبلاد، الذي أصبح يتضمن إلى جانب الفصل 19 الذي ينصّ على المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، أصبح يتضمن كذلك مبدأ كونيا هو سموّ المعاهدات الدولية على التشريعات الوطنية. ومعلوم أن المرجعية الوطنية والخصوصية الدينية منها خاصة هي التي كانت تستعمل دائما ضدّ مبدأ المساواة بين الجنسين في بلادنا، وضدّ العديد من قيم المواطنة والكرامة الإنسانية. الثاني مرور 15 سنة على آخر تعديل للمدونة، وهي مسافة زمنية ظهر خلالها الكثير من النقائص والعيوب والثغرات، وأدت إلى استمرار أشكال من التمييز والحيف ضدّ النساء، وصار لزاما على المشرع المغربي التفكير من جديد في قانون للأسرة يضمن الكرامة للمرأة المغربية، ويخرجها بشكل نهائي من تحت الوصاية، باعتبارها مواطنة كاملة المواطنة كالرجل تماما. السبب الثالث يتمثل في ما قطعته المرأة المغربية من أشواط في العمل والإنتاج أظهرت بما لا يدع مجالا للشك قدراتها وكفاءتها في شتى المجالات، بما فيها إنتاج الثروة وتنميتها، ويكفي أن نشير إلى نسبة الأسر المغربية التي تعيلها نساء وحدهن، وكذا التي تعيلها نساء إلى جانب الرجال، أو أن نشير إلى التفوق الكبير للمرأة في مجال التمدرس، حيث تحصد الإناث ثلثي المعدلات المتفوقة مقارنة بالذكور (67 في المائة مقابل 33 في 2018)، ومعلوم أن معايير الكفاءة في التدبير والتسيير تقوم اليوم أساسا على معيار التفوق الدراسي. لهذه الأسباب الثلاثة على الخصوص لم يعد ممكنا الاكتفاء بإدخال تعديلات جزئية على مدونة الأسرة، بل صار من الضروري القيام بمراجعة شاملة وعميقة، خاصة بعد أن تبين بأن التعديلات الأخيرة لسنة 2004 لم يكن لها أثر إيجابي كبير على أوضاع النساء داخل مؤسسة الزواج بسبب محدوديتها، ما يجعلنا ندعو إلى تغيير فلسفة النص القانوني ومرتكزاته الكبرى حسب ما يلي: 1) اعتبار الإنسان ومصلحته وشروط وجوده أسبق من النص وأسمى، والكف عن النظر إلى الدين كما لو أنه هو الغاية على حساب كرامة الإنسان، حيث لا يعيش الإنسان لكي يخدم الأديان، بل عليه جعل الديانات في خدمته انطلاقا من واقعه وحاجاته المتجدّدة. وبهذا سنجعل من مدونة الأسرة قانونا مدنيا واقعيا منصفا للرجل والمرأة على السواء. 2) القطع النهائي مع الفقه التراثي، الذي كان مرتبطا بصورة المرأة في المجتمع القديم، وبدولة الخلافة (التي لم تعُد موجودة منذ عقود طويلة)، واعتماد فقه جديد يقوم على مبدأ الملاءمة بين مضامين النصوص الدينية والتزامات الدولة الحديثة، وحاجات المجتمع العصري. وسيترتب عن هذا الفقه الجديد تغيير ترسانة المفاهيم التي نحتها الفقه القديم استجابة لوضعية المرأة داخل نظام القوامة والطاعة، النظام الذي كان انعكاسا لنظم اجتماعية وقبلية وعشائرية تفككت جميعها في زماننا هذا مع نشأة الدولة الوطنية الحديثة. 3) اعتماد نتائج العلوم الدقيقة، والقطع مع التخمينات القديمة التي بني عليها الفقه التراثي، والتي تبين عدم صحتها فيما يخص المرأة وبنيتها الفيزيولوجية وإنجابها وقدراتها الذهنية وكفاءتها. 4) اعتبار الأسرة مسؤولية متقاسمة بين الطرفين الرجل والمرأة في تعاقد مدني، وعدم ربط الولاية بالرجل وحده دون المرأة وخاصة بعد الطلاق، وإعادة النظر في مفهوم الحضانة وشروطه المجحفة بالنسبة للمرأة، وذلك بسبب ما تعكسه هذه المفاهيم من وصاية على المرأة ومن دونيتها داخل نظام الأسرة. 5) حذف المواد التي تتضمن تحفظات واستثناءات أدت خلال العمل بالنصّ إلى توسيع مجال السلطة التقديرية للقضاء، مما أدى إلى تكريس نفس الواقع القديم رغم تعديل المدونة، ومثال ذلك ما حدث في تزويج القاصرات وتعدد الزوجات حيث تم وضع استثناءات ومخارج تم استغلالها بأشكال تحايلية فاحشة من أجل الحفاظ على تلك الظواهر السلبية. غير أن إعادة النظر في نص المدونة لن يضمن النهوض بمكانة المرأة وإنهاء أشكال التمييز ضدها إذا لم تقم الدولة بحملة واسعة من أجل التحسيس بالمضامين الجديدة، وكذا من أجل إلزام المسؤولين باحترام تلك المضامين، وخاصة في قطاعي الأمن والقضاء، حيث ما زالت العقلية الذكورية القديمة معتمدة إلى حدّ كبير. ولا شك أن للفاعلين السياسيين والمدنيين دور كبير كذلك في الدفع نحو إرساء مدونة أسرة متقدمة ومنصفة للنساء، وفي متابعة مراحل تفعيلها على أرض الواقع. 1. وسوم