ان الحديث عن مدينة انزكان لدى القاصي والداني، لايعرفها ولايميزها إلا بأسواقها ومراكزها التجارية، غافلين عنها انها كانت وما تزال تحمل صورة مشرقة عن حضارة وثقافة اسلامية ووطنية خلال فترات من تاريخنا الوطني والحضاري، فالمركز الاداري القديم لايزال يحمل صورة عن فترة وطنية جليلة قاوم فيها اعيان المدينة رموز الاستعمار والخيانة، فبرجوعنا الى التاريخ المروي عن اعلام المقاومة بالمنطقة يذكروننا بها شباب المنطقة ورجالاتها ضد زيارة المقيم العام الفرنسي “ليوطي “آنذاك للمدينة حيث واجهوه بالحجارة والمقذوفات تعبيرا عن رفضهم بزيارة المقيم العام، فكانت تلك بداية تشكيل خلايا الحركة الوطنية والمقاومة بالمدينة. وتتوفر المدينة كذلك على سجل حضاري، وديني ،وروحي، تشير اليه كثير من المعالم العمرانية التي تلألأ الفضاء المجالي للمدينة كالمركز الاداري القديم، الذي يضم ابراجا دالة على وجود ثقافة عمرانية محلية تحيل على شموخ اهل المدينة ،وبجانبها ضريح الولي الصالح الحاج مبارك، والمحكمة الابتدائية القديمة والأسرية حاليا، وحي القوات المساعدة القديم، والسجن القديم، والمجزرة القديمة، ومقبرة الجرف،ومسجد الامام علي، وحي أسايس القديم وساحته التي كانت مسرحا لكل التظاهرات الثقافية والفنية والرياضية وخاصة التظاهرات التي تقام بالمناسبات الدينية والوطنية (الأعياد)”بيلماون””عيساوة””كناوة””اسيمكان””عيد العرش”…كل هاته المعالم وغيرها لم تلقى العناية لا من المسؤولين ولا من المنتخبين ، بل انها تعرضت لمجازر عمرانية وتصفيات الى حد هدم ومحق احد المعالم التربوية التاريخية والوحيدة في المنطقة الجنوبية بكاملها وهي “مدرسة الديانات الثلاث” التي كانت تستقبل جميع ابناء الطوائف الدينية الثلاثة: اليهود، والمسيحيون ،والمسلمون، ولقد تم القضاء واعدام هاته المعلمة عن سبق اصرار وترصد من طرف لوبيات العقار بالمدينة ومن يحميهم محليا ووطنيا ، ولا تزال تلك الأرض العارية تنتظر فرصة من يلتهمها ويبتلعها لولا يقظة الفعاليات الثقافية والتربوية بالمدينة، ويبقى أن المنتخبين والمسؤولين يفتقرون للإرادة والحس الثقافي والوازع الوطني لأجل اعادة صياغة المشروع في نفس مستوى الدلالة الرمزية للمشروع السابق الذي اغتيل تحت اعين الجميع. أما حصون المدينة وقلاعها وابراجها بالمركب الإداري القديم، أو بحي أسايس فإنها ما تزال واقفة شامخة تتحدى معاول اللوبيات نظرا للهبة التي بدأت مع فعاليات المدينة، والتي استشعرت الخطر ووقفت صفا واحدا متراصا لمقاومة جيوب الفساد ولوبيات العقار، مما أكسبها في المرحلة الأولى انتصارا رمزيا ،حينما رضخت وزارة الثقافة للأمر فاعتبرت ذلك المركب الإداري القديم، معلمة تراثية تاريخية وطنية، لكن دون أن يتم تنزيل مشروع ثقافي تنموي يمكنه أن يحول هاته المعلمة الى واجهة ثقافية محلية ،تعطي صورة مشرقة عن سجل تاريخ هاته المدينة العريقة وطنيا وثقافيا وحضاريا وروحيا. وبحي أسايس حيث ما يزال الوضع والحال جامدا لم يتحرك أي مسؤول أو أية جهة لأجل انقاذ هذا الحي الذي كان أول تجمع سكاني بالمدينة، يضم بين دروبه مرافق ومؤسسات ذات طبيعة اجتماعية وقضائية ودينية، فكيف يتم اغفال ساحة أسايس التي كانت تجمعا لكل الفعاليات الثقافية والفنية والرياضية للمدينة ،فيها تقام حفلات الأعياد الدينية الوطنية وفيها تنظم احتفالات وطقوس بجلود”بيلماون” وعلى بساطها تنظم طقوس دينية روحية من طرف فرق صوفية”عيساوة”و”كناوة”، واليوم لايسودها إلا البؤس الثقافي والجشع المادي”مربد” ، وما ينطبق على هاته الساحة يسري كذلك على حي الملاح اليهودي، الذي لم يبق له أثر بفعل الجشع للوبيات العقار، فكما اغتصبت “مدرسة الأديان الثلاثة” اغتصب بجوارها حي الملاح، وكان ليهود المدينة يقيمون فيها طقوسهم الدينية بكل حرية واحترام تامين، وهم كانوا من ابرز وأشهر تجار المدينة(وأن احد اليهود بائع الاتواب كان يمنح توب الكفن مجانا) يزودون كل أسواق الجنوب وخصوصا: بطاطا ،وتارودانت ،واغرم، وتزنيت ،وافران بكل ما تحتاجه ساكنة هاته المناطق من مختلف المواد والسلع وغيرها. حي أسايس: حي قديم استوطنه أقدم سكان المدينة سواء منهم الأصليون او الذين هاجروا الى المدينة خصوصا بعد زلزال أكادير..هذا الحي لم يجد في برامج المجالس ولا في ميزانيته ما يعيد اليه بريقه و‘شعاعه زيوفر لساكنته وقاطنيه جزءا يسيرا من الحياة الكريمة نظافة وانارة واخرارا وتعميرا وبنية تحتية، سوى أنه يعيش في احلك فترت عصره ، بل إن أغلبية قاطنيه بدأوا يغادرونه في اتجاه أحياء جديدة أو مدن مجاورة بحثا عن شروط الحياة الكريمة. ساحة اسايس: اسم يدل على فضاء للمتعة والحركة والركح خاص بالمناسبات والفرجة والأنشطة الفنية والثقافية والروحية، تهوي اليه قلوب الساكنة للمتعة والإستمتاع، حيث رقصات أحواش، ودندنات الفرق الكناوية، ونغمات الفرق الموسيقية، وهرولة بيلماون بوجلود وإمعشار، سجلت هاته الساحة لحظات فنية وثقافية ابداعية عز نظيرها ، وما يزال أهل وساكنة المدينة يتذكرونها بحرقة وألم بعد ما اصبحت الساحة”مرتعا” ومربدا لوقوف السيارات، فمتى سيعاد فيها اضاءة قناديل الفرح والركح، إنها رسالة موجهة لأولائك الذين يقولون ما لايفعلون، والى الذين لم يقوموا بزيارتها وخاصة المهتمون منهم بالشأن الثقافي للمدينة؟ أما مسجد الإمام علي فبقي إلى حد الآن لم يجد آذن صاغية لإعادة تجديده وترميمه، رغم أنه لم يكن فقط مكان للعبادة بل إنه رمز تاريخي وحضاري ،منه انطلقت شعلة المقاومة وحركة التحرير، ولم ينس التاريخ الموقف الوطني الفذ لأول من ساهم في بنائه من ماله الخاص وأقام فيه الإمامة والخطابة والتدريس الفقيه العلامة المرحوم سيدي الحاج عبد الرحمن المستغفر رحمه الله ، هذا الذي رفض أن يقيم مبايعة السلطان بن عرفة على المنبر، فأبعد منه إلى أن حصل المغرب على الاستقلال ليعود إليه من جديد ،وليمارس فيه التدريس والإمامة والخطابة….ورغم ما يحمل هذا المسجد من رمزية وطنية ودينية وروحية، إلا أن المسؤولين على الشأن الديني والمحلي لم يتحركوا قصد اعادة ترميم هاته المعلمة حتى يعيدوا له اشعاعه العمراني ووهجه الروحي والديني، ويمكن أن نسقط هذا الإهمال كذلك على كل الزوايا الدينية بالمدينة”التجانية، الناصرية،الدرقاوية… المسجد الكبير (الإمام علي) أقدم مسجد في المدينة يضم قاعة للصلاة ومرافق للنظافة، وكتاب قرءاني لتحفيظ القرءان الكريم ،وبجواره الزاوية التجانية، كان المقصد الوحيد لكل المصلين بالمدينة جمعة وغير جمعة وله تاريخ وطني حافل تبرزه تلك المواقف الوطنية والجهاد في سبيل استقلال الوطن من خلال موقف امامه وخطيبه آنذاك المغفور له الحاج عبد الرحمن المستغفر الذي رفض بيعة بن عرفة على منبر الجمعة وآزره اعيان ورجال المدينة الذين ساروا على دربه نضالا وكفاحا وجهادا، واليوم يشتكي نسيانه وخصاصه الى المسؤولين على الشأن الديني والذين لم ينصفوه، مما جعله اليوم شاهدا على تقاعس المسؤولين الدينيين على كافة المستويات محليا وجهويا ووطنيا، ولولا الاكراميات واحسان جيوب المحسنين لازداد الاهمال واستفحل فيه الامر. فإلى متى سيبقى الوضع على ما هو عليه؟ هكذا يظهر من خلال هاته الإطلالة الموجزة على المعالم الحضارية والثقافية والدينية بالمدينة أن نؤكد على أن المدينة ليست فقط مرتعا للتجارة والتبضع، وإنما كانت منارة علمية وعمرانية وثقافية وحتى رياضية حين كان فريقها”اتحاد كسيمة مسكينة” الذي تم انشاؤه بتحالف بين قبيلتي “اكسيمن وامسكين”، فصال هذا الفريق وجال في كل الملاعب الوطنية، وترك بصمته الرياضية المتألقة في سجلات التاريخ الوطني الرياضي، بل زود فرقا وطنية كبرى بمواهب ونجوم رياضية، وخصوصا فريق الجيش الملكي وحسنية اكادير وغيرها، هاته هي المدينة التي ما تزال لت تأخذ حظها ولم تلق الرعاية والعناية اللازمتين، ولم يتم انصافها لا من طرف المسؤولين او المنتخبين، وكأن القائمون على الشأن العام المحلي لايسعون لإنقاذ مدينتهم من السكتة الحضارية ولايعملون لأجل احياء الروح الوطنية والثقافية للمدينة، وإنما كل همهم الترامي على الأراضي للإغتناء وجعل المدينة مجرد بورصة للمزايادات العقارية بين لوبياتها ومفسيدها، فكم من شروع تم الترامي عليه باسم التنمية الاجتماعية والاقتصادية ليتحول الى مورد للإغتناء الخاص”الأطلس””الحرية”. أما بالنسبة لأعلام المدينة فإنه لايختلف اثنان في أن إنزكان قدمت ثلة من المثقفين والمفكرين ورجال المسرح والفنانين والموسيقين والسينمائيين الذين يضيئون بأسمائهم كل مجالات الحياة الثقافية والفنية بالمغرب، مجموعة ازنزارن من مدينة انزكان انطلقت وبدأت مشوارها الفني، مجموعة الروايس حيث كانت اسواق المدينة فضاءها الملائم ، فيها انتشرت وتمددت وبها انتقلت مجموعة الروايس من أقاليم مختلفة، قصد اكتساب الشهرة والنجومية، فجاء اليها رواد حركة الروايس من اقاليم الصويرة ومراكش وأيت باها واشتوكة وطاطا،أما مجموعة الفرق المسرحية الأمازيغية والعربية فإنها وجدت بيئتها الملائمة بالمدين لتنطلق منها قصد حصد شعبية واسعة في كل المدن المغربية”تيفاوين”، واليوم لاتتنفس المدينة إلا التلوث، ولاتعيش إلا الإحتضار، الفني في غياب الدعم والفضاءات الثقافية والسينمائية، حيث ما تزال المدينة تحتفظ بمعلمة مسرحية مرت عليها عقود زعقود ولم يتم تجويدها وترميمها لتكون في مستوى التطلعات التي ينشدها شباب المدينة”المسرح البلدي الخشبي”. أما السينما الأمازيغية فلقد كان منشأها ومنطلقها ومنبتها في هاته المدينة بالذات التي احتضنت ممثليها وفنانيها ولقد كانوا يشتغلون بامكانيات معدومة، بل يتدربون في بيوت وحوانيت متواضعة “بحي اسايس” متحدين كل الظروف المادية والقانونية لأجل صناعة سينمائية أمازيغية، بادوج، اعوينتي،عاطف، برداوز…وهم الجيل الذهبي المؤسس للسينما الأمازيغية. إذا كنا قد قدمنا هاته الصورة الاختزالية عن مدينة ابيدت صورتها الحضارية والثقافية والروحية على حساب المصالح المادية الخاصة، وعلى حساب الاغتناء التجاري والإقتصادي، وكأن هاته المدينة لاقلب لها ولاروح، لاتتنفس إلا بالمال الخاص، ولاتتطور إلا بالتمدد التجاري، وبالأسواق العشوائية، فموتها واغتيالها جاء تحت طائلة اغتيال بالسبق والترصد، فالترامي على مؤسسة تعليمية وهدم معالم تاريخية وإقامة أسواق عشوائية على حساب المصالح وحقوق المواطن الثقافية والفنية والرياضية يدل على أن المدينة لا تحركها مصالح نابعة من الإرادة التنموية المستديمة، وإنما تحركها لوبيات تتسابق في كل الجهات والجبهات قصد الظفر بما تبقى من أراضي وبقع لإقامة مشاريع ذات النفع المادي الخاص لأصحابها بل حتى هاته المشاريع _ تجاوزا _ لم تنصف ساكنة المدينة وتجارها، فهذا سوق” الحرية” لايزال مشلولا رغم الامتيازات التي أعطيت للمستفيد منه لم يحقق الإنصاف والعدل الاجتماعي لباعة وتجار المدينة وهو اليوم بين مد وجزر قضائي مما جعله يشكل عبئا تجاريا واقتصاديا للمدينة عوض أن يكون منقذا للحياة الإقتصادية والاجتماعية، وهذا سوق “الاطلس” يسير على هدي سلفه خرقا للقانون وحرمانا لحقوق باعة وتجار سوق الجملة القديم فلا هو عوض المتضررون ولا هو فتح فرص العمل والشغل والتجارة للباعة وصغار التجار ، وإنما بقرة حلوب يمتص ضرعها من المسؤولين وزبنائهم من لوبيات العقار، وهاته أسواق عشوائية أخرى في الجرف وتراست لم تهيكل ولم تخلق فرص الشغل بقدر ما هي أسواق عشوائية وضعت لأجل خدمة اجندة انتخابية احتياطية، وهناك بأقصى شرق المدينة سوق الجملة الجديد الذي شرع في بنائه منذ أكثر من عشر سنوات وهو لا يزال ينتظر الشروع في افتتاحه، امتص مئات الملايين من الدراهم واستنزف ميزانية الجماعة ومع ذلك بقي جامدا يتنظر فرصة الشروع في استغلاله ويعلم الله من سيفوز بصفقة الارتماء على سوق الجملة الحالي في حالة ما إذا تم تحويل التجار الى السوق الجديد. إن اللغة والثقافة والسياسة التي تسود مختلف المسؤولين بالمدينة ما هي إلا لغة المصالح، كل مجلس إلا ويبني برنامجه على المصالح التي ينتفع بها هو وجوقته الانتخابية ، فالمجالس السابقة زرعت اسواقا عشوائية ،وأخرى بعدها انتفعت بمنافعها،والحالية تعمل من أجل خلق فرص لأجل اعادة هيكلة منافعها من جديد، فهل ستنتطفىْ قناديل المنتفعين وتعود الروح الثقافية والحضارية لساكنة هاته المدينة ليحدثوا قطيعة مع ممارسات الماضي ويدفنوا الإرث الفاسد للمسؤولين والمنتخبين، ليقيموا صرح مدينة جديدة بوجوه جديدة وبطاقات واعدة تعيد الأمل والحياة لهاته المدينة التي أنصفها التاريخ الوطني برجالاته، وظلمها القائمون على تدبيرها مصالحها من مسؤولين ومنتخبين.