عوامل كثيرة تغذَّت منها أعصابي أو تغذت هي من أعصابي كيْتجعلني يوْمها أسوق السيارة بعصبية. فأنا أصلا، وفاءً لعادة قبيحة، غادرت المنزل في الدقائق الأخيرة، كما أن الشارع المؤدي مباشرة إلى المسجد مقطوع، ممّا اضطرني لسلوك طريق أبعد وأكثر ازدحاماً، وزاد الأمر تعقيداً ثلج متساقط يبعث في أحشائي فوبيا خلقتها وربَّتها ثلاث حوادث سير تعرضت لهابِسب الإنزلاق… العرب تقول ” يثلج الصدر ” لشيء يفرحهم ويُبهِجهم، حُقَّ لهم ذلك فالقيْظ والحرّ الصحراوي الذي كانوا يعيشونه يجعل من الثلج، بياضاً وبرَداً،حلماً لذيذاً ورمزاً لكل جميل. فيحين نجد الفرنسيين يعبِّرون عن نفس الإحساس بعبارة” chauffer le cœur ”،طبعاً فاللغة بنت بيئتها. كم وددتُ أن أعرف نظير هذه العبارة في اللغة الأمازيغية، الأكيد أن علاقة سكان الأطلس بالثلج ليست حميمية جداً، خاصة عندما يقطع عليهم أوْردتهم التي تربطهم بالعالم. ” كلٌّ مِن عنْدِ ربّنا ”، لكنّي فعلاً أتهيَّب السياقة عند نزول الثلج،وأمقتُ الظروف التي تجعلني في عجلة من أمري والثلج يتربص بعجلاتالسيارة. تلكم كانت حالتي وأنا أحاول الإسراع كي لا تفوتني صلاة الجمعة… يمكن أن نعتبر ملتقى شارع ديكاري Decarie، وشارعالملكة ماري Queen Mary إحدى تجليات التعايشالأنجلوسكسوني و الفرنكفونيفي مدينة مونتريال، فماري ملكة إنجليزية ،لست أدري هل المقصودة هي ماري الأولى ) 1516 1558 (و التي عُرفت بماري الدموية لكونها أعدمت أكثر من ثلاثمائة شخص حرقا في إنجلترا بتهمة الهرطقة،أمْ أن الأمر يتعلق ب ‘'ماري تك ‘'جدة الملكة الحالية إليزابيت) 1867 1853.(أمّا ديكاري فه وَإسم لعائلة كيبيكية تنتمي للحزب الليبيرالي الكيبيكي، و ليس عبثا أن يقطع هذا الشارع جزأ كبيرا من منطقة نوتغ دام دو غراس Notre dame de grace فقيدوم العائلة دانييل ديكاري هنا ولد و هنا تربّي و هنا أصبح عمدة حيثُ استمررت عموديته من 1877 إلى 1904.تُرىكيف كان الناس يومها يتعايشون مع الثلج؟ها نحن في سنة 2019 وما زالتالتساقطات الثلجية تكاد تشل الحركة في هذا الملتقى، وليس على المرء إلّا” تثليج أعصابه ”، وتلك موهبة تتفلّتُ منِّي ناصيتها أحياناً… وكذلك كانت حينها… محاولاً أن أسلي نفسي في انتظار أن تنفرج عقدة المرور، أخذت أجول ببَصري على واجهات المحلات ، اصطدمت عيني فجأة بقماش أحمر أمام إحداها. مستجيبا لريح خفيفة هبّت عليهكشف القماش عن وسطه فإذا بالنجمة الخضراء تطل من هناك… ابتسم قلبي قبل مُحياّي، رباه ماذا يفعل العلم المغربي ها هنا، فحسب علمي لا توجد على هذا الشارع أي مؤسسة رسمية للمغرب. مسحت واجهة المحل بكثير من الإنتباه فإذا بحروف بيضاء تشي بأن المتجر يحمل إسم:الدارالبيضاء. تكهنت أن صاحب المحل مغربي ومُصاب هو الآخركجُلِّ المغتربينبداء الحنين للوطن… نتصرف في بيت المرحوم البشيري ونقول لصاحبنا: كفْكفِ الدمع واكتم الأحزان *** أيها المغترب ما دهاكَ دهانا. مباشرة بعد الرعشة الخفيفة التي تجتاح قلبي عند رؤية العلم الوطني أتذكر قصة صديق عزيز.كان فؤاد يمتلك متجراً بمدينة فاس وكان ” المقدم ” يطلب منه في بعض المناسبات الوطنية، على غرار باقي تجار المنطقة، أن يرفع العلم الوطني فوق الباب. ومرّةً دخل المقدم المتجر ليُنبِّه صديقنا إلى أن العلَم معلق بالمقلوب، ثم طفق يشرح له كيف أن النجمة الخماسية لها رأس ويدان وساقان، وطبيعة الأشياء تريد أن يكون الرأس في الأعلى والساقان في الأسفل. ذلكم ” عِلم ” لم أسمع به إلا مرة واحدة في حياتي وفي مونتريال.من يومها أضْحت ردة فِعلي عند رؤية العلَم المغربي هي الإطمئنان على كون النجمة واقفة على ساقيها،وفعلاً وجدت صاحب محل الدارالبيضاء قد وُفِّق فيرفع العلم كما ينبغي. لا أعرف هل اكتسب هذا العِلم من مقدم حيِّه هو الآخر، أم أنها مجرد صدفة… كل ما أعرف أن رؤيتي للرّاية وتذكُّري للمغرب خفّف من تَوتُّري وألْهاني عن الثلج وأزمة المرور. حين نتكلم عن الأسباب العلمية أو لِنقُل الكيميائية للمتعة وللذة غالباً ما نستحضر مادة ”الدوبامين” الثاوية في مكان ما تحت الجمجمة، وتُقحم هذه المادة لتفسير الإدمان، والحب أيضاً. تُرى هل رؤيتي للعلم المغربي في شارع ديكاري، هيَّج هذا الدوبامين حتى وجدتُني منشرحاً وأنسانيتشنجي، بل وصلاة الجمعة التي خرجت من أجلها…؟ لست أدري.و حتى لا نبالغ في الإدعاء بهُيامنا شوقاً و حنينا للوطن، فغالبا ما يتبع نشوة تذكُّر المغرب خوف و قلق و غضب من حال البلد و مآله. يوْمها لم أكن بحاجة إلى مزيد من الغضب ولم أكن أودُّ إفساد مفعول الدوبامين بتسونامي من الأدرينالين. حين هممت بكتابة هذه الخاطرة ترددت برهة وقلت لنفسي، لقد سبق وكتبتُ عن حب الوطن والحنين إليه،وعليه فلست أخالني سأضيف جديداً، أجابتني نفسي، لو كان الأمر كما تقول لاقتصر عنترة ابن شداد على جملة واحدة ” يا معشرعبس إني أحب عبلة و أوَدُّ الزواجبها ”، لكنه أبدع في المجاز و الإستعارة و التشبيه و لم يفوِّت الفرص للتَّنويه بالمحبوبة. ولقد ذكرتُك والرماح نواهلٌ *** منّي وبِيض الهند تقطر من دمي فوددتُ تقبيل السيوف لأنّها*** لمعتْ كبارق ثغرك المتبسّم صفاقة هي وغرور أن أقارن بديع نظمهم بخربشتي، حسبيَ من القول أني لست مبتدع إن تَصيَّدتُ المناسبات واستوقفتُ اللحظات لأتذكر طنجة و البحر و مرشان و الشمس… و لئن كان هناك من رأى ثغر محبوبته في بارقة السيوف، فقد رأيت في تموُّج القماش الأحمر و هو يكشف عن الخضراء صلعة أبي و يده المُتوضئة و وأتمنّى تقبيلهما هذا الصيف إن شاء الله. تلكم قصتي مع الثلج والعلَم والحنين للمغرب. تُمسون على وطن. …وحينما وصلت المسجد وجدته نصف فارغ وكان الإمام قد غادر المحراب … غفر الله لناو له…