لقد اهتمت بموضوع الصراع البشري مجموعة من الأبحاث قديما وحديثا، كل منها يتدارسه من زاوية خاصة، ومن منظومة فكرية ومرجعية معينة. فموضوع الصراع بين بني آدم يتجدد ويتلون عبر الأزمنة والأمكنة، وفي كل عصر يتلبّسُ لبوسا متنوعة ومتعددة؛ إنه حركي ودائم، فهو متطور من حيث شعر بنو آدم أو لم يشعروا، موجود شاءوا أو أبوا. فما دام الصراع أو التنازع، كما يسميه بعض علماء الاجتماع، موجودا في البنية التكوينية لبني آدم؛ أي منذ أن خلق الإنسان جبل على الصراع والنزاع في مجالات مختلفة. فبدأ الصراع بين الإنسان والطبيعة، حيث كان لزاما عليه أن يتنازع ويتصارع من أجل الحفاظ على بقائه أولا، والحفاظ على نسله ونوعه ثانية، تبعا لذلك، فإن صراع الكائن البشري مع الطبيعة عام وشاسع؛ فهو تصارع وما يزال مع الظواهر الطبيعية التي تهدد وجودها البشري؛ كالبراكين والزلازل والفيضانات، ومع بعض الحيوانات التي تشكل، بالنسبة إليه، مصدر تهديد وخطر، وبين هذا وذاك، نجد نوعا آخر من الصراع لم يستطع الإنسان التخلص منه رغم اللجوء إلى مجموعة من الحلول؛ إنه صراع بني آدم في ما بينهم. فمنذ القديم والإنسان يتصارع مع عشيرته وقبيلته والقبائل المتجاورة له، إلى أن تطور صراعه حتى تمثل في الصراع مع أفراد مجتمعه وكذا المجتمعات الأخرى. على أن الصراع والتنازع يأخذ تنوعات وأشكالا عدة، كما أشرنا أعلاه: فبعدما كان الكائن البشري يتنازع من أجل البقاء مع الطبيعة بظواهرها وكذا الحيوان، أضحى، في العصور المتأخرة، يتنازع من أجل الأفكار والمعتقدات. فهذا التنازع لم يأت من فراغ الطبيعة، وإنما أتى بفعل التطورات التدريجية التي تميز بها الكائن البشري في مختلف أطوار حياته وعصوره، ومن ثمة، نجد أن الكائن البشري متطور ويترقى حسب مستجدات العصر، ولعل هذا ما أكده الفيلسوف الفرنسي، لوك فيري، في كتابه “تعلم الحياة: سأروي لك تاريخ الفلسفة” في معرض حديثه عن نيتشه؛ إذ أشار إلى أن ما يميز الكائن البشري عن الحيوان هو “قدرته على التحسن”، أي أن هذا الكائن يسعى دائما إلى الترقي والتطور من أبسط جزئيات حياته، إلى مستواها الفكري والحضاري، وذلك عبر تحولات من حياة طبيعية قانونها القوة والتنازع، إلى حياة مدنية، قانونها الارتقاء بالعقل إلى سن القوانين والتشريعات والتنظيمات التي من شأنها تنظيم علاقة الإنسان بأفراد مجتمعه، وبالمجتمع ككل، وعلاقته بالمجتمعات الإنسانية الأخرى. وبهذا يكون للنزاع أنواع شتى، لكننا سنركز اهتمامنا في هذا المقال، على النزاع الفكري الذي ينصب عن المعتقدات والأديان. وفي هذا السياق، أحبذ الإشارة إلى أننا لن نتتبع كل تمظهرات وتجليات هذا الصراع؛ لأن هنالك كتبا متعددة ألفت في هذا المجال، قديما وحديثا. وإنما سنركز الاهتمام على الاختلاف بعض مظاهر الاختلاف بين الأديان على اختلاف أنواعها ومصادرها، وكيف نتج عن ذلكم صراع جدالي فكري مؤجج. اتخذ الصراع العقائدي تمظهرات شتى، ومرّ بمراحل عدة، ويمكننا أن نلفت النظر إلى بعض هذه المراحل، من نظرتنا الخاصة لهذا الصراع الذي يعد تنازعا مشروعا في الفطرة البشرية: – هناك صراع بين الديانات الوثنية، فالديانة المجوسية هي غير الديانة اليونانية، غير الديانة الزراديشتية غير الديانة البوذية غير الديانة القرشية، قبل مجيء الإسلام، إلى آخره من الديانات. فإذا كان الإنسان حيوانا اجتماعيا متدينا، فإن التنازع من أجل الدين الذي يتدينه يعد حقا مشروعا، مما يفسر لنا مظاهر الصراع التي كانت بين هذه الديانات البشرية التي تقوم على عبادة الأوثان والأصنام التي هي من صنع الإنسان. ولعل هذا ما يفسر لنا أيضا، أن للكائن البشري فراغا وفجوة لا يمكن أن يملأها إلى عقيدته الدينية، وبالتي فالكائن البشري في حاجة دائمة إلى اعتناق عقيدة معينة، من أجل دفع كوارث الطبيعة وهجماتها القوية من خلال الذبائح والقرابين، حتى تطور الإنسان في أشكاله التعبدية، بناء على نمائه الفكري والحضاري، إلى التعبد بدين معين من أجل ملْء فراغ روحي مخصص للعقيدة. – تطورت أشكال الصراع بعد مجيء الديانات السماوية التوحيدية، حيث أصبح التنازع منصبا على هدم تلكم الديانات البشرية، وإحلال الديانات السماوية مكانها. فهذا الصراع عرف أشكالا مختلفة؛ لأن ليس من الصعب أن يأتي نبي معين، ويطعن في آلهة أناس وجدوا آباءهم لها عاكفين، ومن ثمة نفهم أن الدين والتدين لا يختاره الفرد، إنما يدخل، الدين، ضمن النظم والتقاليد والمعتقدات الفكرية التي يعد وجودها سابقا على وجود الفرد. لقد كان دعاة الديانات التوحيدية في صراع دائم مع أصحاب الديانات البشرية، فأولئك يدعون إلى دين مجرد من حيث التصور والاعتقاد، وعملي من حيث أشكال ممارسته، وشعائره وشرائعه، لهذا بدأ الصراع صراع مبادئ وأفكار وتصورات جديدة من حيث المصدر الواحد، تسعى إلى القضاء على ذات المصادر المتعددة. – في العصور المتأخرة عرف الصراع والتنازع طريقا آخر، مختلفا عن سابقيه، بحيث أصبح تنازعا وصراعا بين الأديان السماوية وحدها. فاليهودية والمسيحية دينان سابقان عن الدين الإسلامي من حيث البعد الزمني. والقرآن الكريم يخبرنا أن هنالك أديانا سابقة عليه: فقد ظهرت اليهودية مع موسى، عليه السلام، بعدما أنزل الله عليه التوراة، والمسيحية مع تعاليم عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام، ثم جاء الدين الإسلامي، مع محمد عليه الصلاة والسلام، خاتما للرسل والأنبياء السابقين. إذن فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم. إن المتأمل لآي القرآن الكريم يجد أنها لا تخالف التعاليم التي جاء بها موسى وعيسى، عليهما السلام، فجميع الرسل أتوا من مصدر واحد، وبتشريع واحد، وبهدف واحد. أما من حيث المصدرُ فإن موسى وعيسى، عليهما السلام، ومحمد، صلى الله عليه وسلم، كان المعين الذي يتلقون عنه تعاليمهم هو الله عز وجل. يقول تعالى: “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه” (الشورى الآية 13). أما من حيث التشريع، فكل الرسائل السماوية أتت بمجموعة من الأفكار والمبادئ التبشيرية الهادفة إلى إزالة الظلم والظلام من البشرية، والسير بها قدما نحو النور والمعرفة. أما من حيث الهدفُ، فإنها جميعا أتت لأجل توحيد العبادة لله عز وجل، وإزالتها من الأشخاص الجبارين الذين يدعون الألوهية. لقد أتى القرآن الكريم ليعلمنا أن لا تفاضل بين الأنبياء من حيث تبليغُ الرسالة. وهذا ما نصت عليه آي الذكر الحكيم؛ يقول تعالى: “آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله” (البقرة الآية 285). ويقول جل جلاله: “قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون” (البقرة الآية 136). إذن فالإسلام لا يدعو إلى نبذ وكره الأديان السماوية الأخرى، كما يروج أعداؤه لذلك، وإنما يدعو الناشئة إلى مبدإ السماحة والتسامح مع الأديان السماوية؛ ولئن كان القرآن قد قبل ونشأ دون أن يتعصب لدين معين، فإننا مطالبون بترسيخ هذه الفكرة في أنفسنا. فالصراع والتنازع من الطبيعة البشرية، ومن وبه تنشأ الحضارة الإنسانية، وقد نص القرآن على التدافع لأهميته، حيث قال تعالى: “ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهّدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا” (الحج الآية 40). لقد كان التنازع والتدافع سمة من سمات الكائن البشري، فانعدام التدافع يعني الجمود والثبات، وهذان الأخيران يعنيان الموت، والحضارة لا تقبل الفراغ والجمود والسكون، وإنما هي في حاجة دائمة للتدافع والحركة من أجل التطور والرقي الفكري والحضاري. إن ما لفت نظري، هو ما شاهدته في حلقة من برنامج يدعي التنوير والعلمانية، حيث تم طرح تساؤل حول العلاقة بين الإسلام والمسيحية؟ فراح هذا الباحث يقوم بمقارنات بين الأحاديث الصحيحة، حسب زعمه، وبين ما ورد من آيات في الإنجيل حول تعاليم المسيح، عليه السلام. لكن هذه المقارنة لم تكن موضوعية بالشكل المطلوب، بقدر ما كانت ترسانتها ضعيفة وهي العاطفة، فالسنة النبوية فيها أنواع من الأحاديث: الصحيح، الحسن والأحسن، المقبول والضعيف. إذ إننا لم نجد حديثا ثبتت صحته عن النبي يأمر فيه بالسرقة أو الجور، والنهب والسب والشتم، إنما هذا اختلاق وافتراء على سنته الحسنة، عليه الصلاة والسلام. إن القرآن الكريم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يأمرنا باحترام الأنبياء السابقين، وأن لا نقيم تفاضلا ولا مقارنة بينهم؛ لأنهم يتلقون عن المصدر نفسه، ويحملون الرسالة نفسها، والهم نفسه، فكيف للنبي أن يأمرنا بالسرقة والجور والبغض؟ قلت سالفا إن التنازع والتصارع محمود من جهة الرقي بالأفكار والحضارة، لا من أجل الطعن في الأنبياء والرسل. إننا في حاجة ماسة إلى مقارنة بناءة تهدف إلى الاستفادة من الأمم السابقة. ففي القرآن، على سبيل المثال لا الحصر، ورد ذكر موسى، عليه السلام، أكثر من الأنبياء الآخرين، وهذا دليل على أن ثمة رسالة يمدنا بها الإسلام؛ وهي أنه لا يخالف الكتب السماوية الأخرى، إنما أتى ليؤكدها ويرسخ ويثبت تعاليمها. قبل أن نلجأ إلى المقارنة بين القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى، ينبغي أن نتساءل: لم القرآن الكريم واحد، والإنجيل أناجيل متعددة ومختلفة؟ هل المسيح، عليه السلام، تلقى وحيا واحدا، أم أنواعا مختلفة من الوحي؟ الهدف من الأسئلة أعلاه، هو الدفع بمن يطعن في الأنبياء إلى البحث، أولا، في صحة المرجعيات التي يصدر عنها، والأفكار والمعتقدات والنوايا التي تحركه، وتؤجج نار البحث في نفسيته. فالناس لم يعودوا في حاجة إلى المفاضلة بين الأنبياء، ولا بين الصحابة والخلفاء، وإنما نحن محتاجون إلى أفكار جديدة تسهم في تقدم البشرية جمعاء، وتكون خير عون للإنسانية على مواجهة مشكلاتها الراهنة. نحن محتاجون إلى تنزيل السلم العالمي من مستواه التجريدي إلى الواقع العملي، وذلك يتم من خلال الانطلاق من عقيدة مبدئية صحيحة أولا، خالية من الشبهات والتي تعرقل مسيرة التاريخ البشري، وتوقف من نمو الحضارة الإنسانية.