قبلَ أيام احتضنت باريس في الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى فعاليات منتدى السلام الذي حضرهأكثر من 60من رؤساء دول وحكومات العالم دون حدث هام يُذكر. ورغم أننا تفاعلنا مع الحدث في تفاصيله الجانبية الصغيرة كعدم إلقاء بوتين التحية على محمد السادس وولي عهده أو تحية ترامب لهما، فإننا لم نتوقف، ربما، عند مشهد جانبي آخر بات يُسائلالبشرية بإلحاح عن مُستقبلها وعن “المعنى”، معنى الإنسان والجنس والأسرة! هذا المشهد ليس سوى تواجد “رجل” وسط نسوة في صورة تذكارية تجمع “زوجات” رؤساء الدول والحكومات على هامش منتدى السلام بصفتهِ “زوج رئيس وزراء حكومة لوكسمبورغكزافييهبيتل”.من المؤكد أن الصورة بدَت عادية وتحملُ في طياتها ظاهرة صحية في نظر مُناصري المثلية وحرية العلاقات الجنسية من جانب ومُستهجنة من جانب آخر لدى من ينظرون للمثلية كحالة “شاذة” غير طبيعية في الجنس البشري.إلا أنها، بغض النظر عن موقفنامن المثلية الجنسية، تُحتم علينا (الصورة) أن نَستشرفَ المستقبل (Etre futuristes) وأن نتساءل عن الكيفية التي سنُدير بها النقاش العمومي عندما سيأتي الدور على مُجتمعنا المحافظ ويُفرَضُ عليه بقوة نقاش”المثلية الجنسية” و”حرية الجسد”ويستوجب علينا حينها تحديد خياراتنا “الجَمْعِية”على ضوء تجربة المجتمعات الغربية التي تحول فيها التعاطي مع المثليين كأقليات وكشواذ إلى تقبّلهم كأفراد طبيعيينتَسْمَحُ لهم بالوصول إلى أعلى المناصب السياسية ك “كزافييهبيتل” و “ليو فرادكار”رئيس وزراء آيرلندا و”آنا برنابيتش”رئيسة وزراء صربيا؟ المتتبع للتطورالسوسيولوجي لنقاش “المثلية الجنسية” في المجتمعات الغربية سيلمسُ أن فصل “الدين” (كمُعتقد يتناول موضوع الجسد بالتحريم والتحليل) عن المؤسسات السياسية المؤطرة لهذه المجتمعات سَمَحَ تدريجياً بمناقشة “الجسد” ليس كموضوع سياسي-ديني (Sujet politique) جزء من “المجال العام” (Espace public)الخاضع لقوننة الدولة أو لآلية التحريم والتحليل الدينية وإنما كموضوع ذاتي-شخصي جزء من “المجال الخاص” (Espace privé) الذي لا يعني إلا الفرد وحده والذي يُعْتَبر جَسَدُه مادةَ وجُودِه الشخصي.وهو ما أدى بالتالي إلى إعادة تشكيل الوعي المُجتمعي بالعلاقات الجنسية كعلاقة بين “موضوعين ذاتيين” (جسدين) أي أنها علاقة بين “مجال خاص” و”مجال خاص آخر” لا شأن للمجال العام بها. صحيح أن نقاش “حرية الجسد” وتشكل وعي جديد بالعلاقات الجنسية قد يبدو سهلاً من الجانب النظري، لكن حتى في المجتمعات الغربية المنفتحة والتعددية لم يجري فيها هذا النقاش بالسلاسةالمرجوة، ولا زلنا نتذكر التصادمات والاستقطابات الحادة التي وقعت، في فرنسا مثلا، منذ انتفاضة ماي 1968 التي حملت بذور التمرد على القوانين والتقاليد الموروثة فيما يخص موضوع “الزواج”، مرورا بحقبة الرئيس “فرنسوا ميتران” الذي رضخ لضغوط المجتمع سنة 1981 ومرر قانون “المعاشرة أو الاتحاد الحر” (Concubinage ou l'union libre) إنتهاءًبتنزيل قانونPACS (Pacte Civil de Solidarité)سنة 1999 حول المماثلة الجنسية والجندر الذي اعتبرُ انتصارا للمثلية الجنسية إذ جاء فيه بالحرف “… يحقُّ لكل شخصيْن بالغيْن وبكامل قواهمها العقليّة، – أيّاً كان جنْسهما، أن يُنظّما بينهما عيشّاً مُشتركاً بتوقيع اتفاق تضامن مدنيّ أمام المحكمة، وبالتّالي يستفيدان من كلّ المزايا الممنوحة للزّوجيْن التّقليديّيْن” ليتم في الأخير التمهيد للسماح بزواج مثليي الجنس. وهي تقريبا نفس الصيرورة الصعبة التي دفعت دول أمريكا الشمالية وأوربا الغربية وأستراليا وكولومبيا وحتى جنوب افريقيا للسماح بزواج مثلي الجنس والتطبيع معهم اجتماعيا. بل أن عَلمانية هذه الدول المتقدمة لم تمنع المؤسسات الدينية من التصدي لهذه التحولات السوسيولوجية في التعاطي مع مفهوم “حرية الجسد” ونبهت إلى خطورة تهديد طبيعة البشرية (Dénaturation de l'humanité) وكيان الأسرة في المجتمعات كما جاء على لسان بابا الفاتيكان “فرنسيس الأول” (في احدى خطبه خلال زيارته لجورجيا في أكتوبر 2016) عندما أشار إلى المثلية الجنسية على أنها “استعمار أيديولوجي”وحذر من “حرب عالمية” على الزواج التقليدي والأسرةليرد مناصرو “المثلية الجنسية” من جديد بدحرجة كرة ثلج كبيرةلا تقفعند “حرية العلاقات الجنسية” و”المثلية الجنسية”بل تخلق زلزالا اجتماعياً عن”معنى الأسرة؟” (Qu'est-ce que c'est la famille ?) و”معنى الزواج؟” مطالبين بإعادة مناقشة هذه المعاني خارج الأحكام الجاهزة في تصور الدين وحتى الطبيعة (لأن لا نموذج للأسرةالبشرية يمكن أن نستمده من الطبيعة حسب زعمهم فضلا عن تسجيل حالات متعددة من المثلية الجنسية لدى الكائنات الحية). في المغرب كما هو الحال بالنسبة لكل المجتمعات المحافظة لازالت العلاقات الجنسية “مُسيّسة” بحكم أن الدولة والتنظيمات السياسية تتدخل في “المجال الخاص” للفرد وتحوله إلى “مجال عام” يخضع للسياسة وللدين سواء من خلال التشريعات القانونية أو من خلال السياسات الاجتماعية والعائلية وهو ما يجعلها، على رأي السوسيولوجي الفرنسي المعاصر “Eric Fassin”موضوعاً سياسياً خاضعاً للتفاوض السياسي وللتجاذبات والتعبئة الأيديولوجية والسياسية، ويستوجبُ دمقرطة نقاش “العلاقات الجنسية” من خلال تمديد القيم الديمقراطية (l'extension des valeurs démocratiques)كالحرية والمساواة إلى نقاش “حرية الجسد” و “الجنس” وهو ما يسمية نفس السوسيولوجي الفرنسي بالديمقراطية الجنسية “La Démocratie Sexuelle”. السؤال الذي يطرح نفسه بشكل تلقائي الآنفي أذهاننا، والذي يعرف جوابه الكثير منا، هو هل مُجتمعنا قادر على مناقشة موضوع “حرية الجسد” و”العلاقات الجنسية” خارج المُعطي الديني والعُرفي؟ إلا أنني أحبُ أن أثير سؤالاً آخراً يتخفى علينا في ثنايا هذا الموضوع هو سؤال عن مدى وعي المجتمع المغربي بكون فصل “الدين” عن المؤسسات السياسية،إذا ما تأتى ذلك ربما، سيتبعه حتماً المطالبة بإعادة النظر في قضايا كثيرة مرتبطة بالجنس كمعنى الأسرة وحق المرأة في الإنجاب دون زوج والدعارة والجندر…؟! * كاتب وروائي من المغرب