لقد أعادت إلى الأذهان انتفاضة التلاميذ الحالية ضد قرار حكومة سعد الدين العثماني، القاضي بتثبيت الساعة الإضافية، الأجواء التي اندلعت فيها أحداث مارس من سنة 1965 والتي قادتها الحركة التلاميذية على خلفية إصدار يوسف بلعباس وزير التعليم آنذاك مذكرة يمنع بمقتضاها كل البالغين 17 سنة من الالتحاق بالسلك الثاني من الثانوي، مع استحضار الجو السياسي والاجتماعي الموسوم بالتوتر، حيث شكلت الأحداث لحظة تصادم حاد بين الدولة والمجتمع. لقد شكل قرار غير محسوب لوزارة التربية الوطنية خميرة انتفاضة عارمة قادتها الشبيبة المتعلمة، تراكبت أسبابها المباشرة مع شروط اقتصادية واجتماعية عسيرة خاصة وأنه قبيل الأحداث بحوالي شهر تقريبا تم تسريح جماعي للعمال في قطاعات عدة من الصناعة والتجارة، انضاف إلى ذلك السياق السياسي وملابساته والتي تمثلت في تنامي موجة القمع ضد أحزاب المعارضة، وخلق حزب إداري جديد تحت اسم جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، بالإضافة إلى عجز الحكومة عن حلحلة الإشكالات التي تهم المواطنين كالتعليم والصحة والسكن وغيرها من القطاعات الحيوية. بالإضافة إلى ظاهرة الانفجار الحضري الذي عرفه المغرب نتيجة التمدن السريع كما هو حال مدينة الدارالبيضاء في تلك الفترة والتي مثلت مسرح الأحداث الأولى قبل أن تنتقل عدوى الانتفاضة إلى باقي المدن. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن الحراك الاجتماعي الذي كان يتم استثماره في صراع سياسي وإيديولوجي مفتوح لصالح قوى المعارضة بشكل من الأشكال، ساهم في إحداث قطيعة في عموم الخطاب الوطني على مستويين اثنين: تمثل المستوى الأول في تحول الحراك الاجتماعي من معركة بالوكالة إلى معركة خاصة قادتها الشبيبة المتعلمة، حيث شكلت انتفاضة 23 مارس 1965 عتبة رئيسية لانتقال مركز الثقل في معادلة الصراع السياسي مع النظام من المؤسسات الحزبية والنقابية إلى حركة الشارع العفوية، وما مثله ذلك من سحب المشروعية عن عموم الطبقة السياسية، كما كشف عن طبيعة الأعطاب القاتلة التي تعتور بنية الحياة السياسية في المغرب سواء فيما يخص المؤسسات الحزبية والنقابية، أو فيما يخص السلطة التي حاولت استدراك مجالات ضعفها، إلا أن ذلك كان لصالح مزيد من الهيمنة وبسط سلطتها من خلال إعادة بناء استراتيجيتها من جديد في التعامل مع المسألة الحضرية بالمغرب. أما المستوى الثاني من القطيعة هو أن الأحداث كانت بمثابة الرحم التي تخلق فيها خطاب سياسي جديد تجاوز الممارسة السياسيةالقائمة على المناشدة والتحذير والقبول بالأمر الواقع إلى خطاب سياسي ثوري يقوم على مقابلة الإصلاح بالثورة وهو ما تأكد فعليا مع ميلاد “منظمة 23 مارس” بصفة خاصة والحركة الماركسية المغربية بصفة عامة. كما لا يخفى على أحد حجم التراجعات في المراحل التي لحقت هذه الأحداث بفعل إخفاق النظام السياسي على إيجاد جواب سياسي للأزمة، وتغول السلطوية والاستفراد بالحكم خاصة مع عناد الجالس على العرش الذي أعلن حالة الاستثناء وحل البرلمان في نفس السنة، ولا غرابة بعد ذلك أن يشهد المغرب محاولتين انقلابيتين قادهما العسكر، وماذا بعد السياسة غير العسكرة ؟! إن تشابه السياقات في عمومها بين الماضي والحاضر، بعيدا عن الإسقاطات المخلة، يدعونا إلى تأمل كثير من خلاصات الأحداث السابقة واستثمارها في تجاوز أزمتنا الراهنة التي تعيش حالتها القصوى. فعلى المستوى السياسي نشهد اليوم حالة من المواجهة المفتوحة بين الدولة والمجتمع على عدد من الأصعدة في غياب تام لكافة أشكال الوساطة السياسية بفعل التدمير الذي طال بنية النسق الحزبي في المغرب طيلة عقود. وعلى المستوى الاجتماعي يظل الحقل الاجتماعي حافلا بالأزمات في صيغتها الخام في ظل عجز مزمن عن تحويلها سياسيا إلى مادة قابلة للمعالجة، ومن تم إمكان الانطلاق منها باعتبارها أرضية لعرض سياسي جديد سواء من قبل النظام السياسي أو من قبل النخبة السياسية المغربية. في غياب كل هذا ترشح عدد من المؤشرات تطور حراك المجتمع إلى مستويات أكثر راديكالية (ستبدو أمامها راديكالية التنظيمات والأحزاب متواضعة) سواء على مستوى الخطاب (يمكن مثلا تأمل حجم وطريقة النقد للدولة ورموزها ومؤسساتها في التداول اليومي للشباب على منصات التواصل الاجتماعي…) أو على مستوى الممارسة (مثال: الهجرة غير الشرعية، طلبات اللجوء للجزائر أو إسبانيا في بعض المدن الحدودية أو مدن المعابر أو حرق البطائق الوطنية للتعريف…)، وهو تطور يزيد من تعميق الفجوة بين المجتمع والدولة، ويؤسس في نفس الوقت لحالة من الانفصال الرمزي والمعنوي نتيجة انهيار منسوب الثقة في المؤسسات السياسية والاجتماعية. إن غياب العمق الاستراتيجي في الدور الجوابي للدولة أمام أسئلة المجتمع وتحولاته وأزماته، يرهن زمن الإصلاح المغربي بأجوبة خارج حقل السياسة وكأن أزمة المغرب أزمة تدبير وحكامة بعيدة كل البعد عن سؤال الإرادة السياسية وأسلوب الحكم. ولعل هذا الإصرار العنيد على تهريب الجواب عن الأزمة الراهنة خارج “الآلية السياسية” والمنهجية الديمقراطية مع العودة الأكيدة والقوية للملكية التنفيذية في السياق الحالي، يجعل المؤسسة الملكية، مع ما تمثله من ضمانات للاستقرار السياسي من خلال دورها التحكيمي، أمام مأزق خطير على اعتبار أن من توابع مباشرة الحكم والتنفيذ ربط المسؤولية بالمحاسبة. وهنا أختم بجواب عبد الرحيم بوعبيد مرتين للحسن الثاني، مرة حينما قال له الحسن الثاني وهو لا يزال وليا للعهد “أنا أيضا اشتراكي” فأجابه عبد الرحيم بوعبيد “يمكنك أن تكون اشتراكيا كإنسان أو مواطن، لكن لا يمكنك أن تكون اشتراكيا كولي للعهد”. أما المرة الثانية فحينما سأله الحسن الثاني عن سبب رفع المتظاهرين خلال أحداث مارس 1965 شعار “يسقط الحسن الثاني” عوض يسقط يوسف بلعباس باعتباره الوزير المسؤول عن التعليم في تلك الفترة، فكان جواب الرجل “ربما يا جلالة الملك لأنهم يعرفون أن الحكومة ليس بيدها شيء”. لقد كانت أجوبة سي عبد الرحيم بوعبيد تنم عن تصور عميق وأصيل للدور الذي ينبغي أن تلعبه الملكية في المغرب، وقد زاد من أصالة أجوبة الرجل قدرته على الإفصاح بها بكل جرأة وفي الوقت المطلوب.