الكتابة هي مشروعٌ تاريخي ينمو في جلِّ الحضارات والثقافات، من جيلٍ لآخر، هذا المشروع يتجاوزُ كل التنميطات الأقنومية. قبل الميلاد عند اليونان كانت الكِتابة شبه منعدمة ومغمورة، غير معروفة، حيث كان الكلام الشفهي هو السائد، وأحكم سيطرتهُ على الثقافة الإغريقية برمّتها. بعدها، بدأت بوادرُ الكتابة بالظهور شيئاً فشيئاً، خصوصاً مع أفلاطون، بعدما انتهت حِقبةٌ سوداء مع أستاذه سقراط، الذي مات وهو يتجرَّع السم. كان السرد الشفهي غالباً على سقراط، مما جعلهُ يجوبُ شوارع أثينا ويُحدِّثهم عن الفلسفة باعتبارها فنًّا من فنونِ العيش. الميتافيزيقا قبل أفلاطون قامت بالإعلاء من شأن الكلام عن الكتابة، وحتى عند انتشار الكتابة، فإنها لم تلقَ اهتماماً واسعاً، بل اُعتُبرَت مجرَّد تكميلٍ للكلام. عند قولِنا بأنَّ تاريخ الفكر الغربي بأكملهِ هو تاريخ التجاوز والنَّقد، فإننا نشير إلى مسألة تقدم الفكر، من بين أوجه هذا التقدم، هو الاهتمام بالكتابة أكثر من السابق. الكلامُ يفترضُ مخاطِباً ومخاطَباً، وبالتالي من الضروري وجود متكلِّم والآخر يستمِع، هذه العملية تفترضُ وقتاً محدداً بين القائل والسامع. إنَّ الأسس الصوتية للميتافيزيقا تنبني عليها الحقيقة، وقد انبنت الميتافيزيقا بالأساس منذ بداياتها على الكلام. سقراط وتلميذه أفلاطون، خصوصاً الأول، كانوا فكرياً ضد الكتابة، وهذا ما جعل أفلاطون يعبِّرُ عن هذه المسألة قائلاً: “إنَّ الكتابة تُمارسُ خطراً على الدائرة، فهي آفةٌ لا يُطمئنُّ لها، شأنها كشأن كلِّ الآفات التي يجبُ الحذرُ منها”. لم يقف أفلاطون عن هذا الهجوم الشنيع للكتابة، بل أردف قائلا: “الكلامُ هو الذي يحتفظُ بالحقيقة وليست الكتابة”. هنا يجعلُ أفلاطون من الكتابة فعلاً رديئاً لا يستحق أدنى اهتمام. إنَّ الفكر الغربي عموماً أسَّسَ علاقةً غير مُتكافئة بين الكلام والكتابة، أي إن هذه العلاقة محكومة بالعنف. يمكننا طرح سؤال شائك: أين يتجلى الفرق بين الكلام والكتابة؟ الكتابةُ هي دائماً رمزية، مُتجهة صوب منحدرٍ سرديٍّ للغة، كلُّ ما يُكتب يناقشُ قضيةً ما، يحاول إبراز كلِّ ما يتعلَّقُ بهذه القضية. أما الكلام لا يعدو كونه ديمومة من الإشارات الفارغة التي تكوِّنُ حركتها. الكتابة تتميَّزُ عن الكلام باعتبارها شيئاً مخيفاً، على حدِّ تعبير السيميولوجي “رولان بارت” (1915- 1985). إذا تمركزنا حول الصوت، ماذا سَيَنتجُ عن هذا التمركز؟ سينتجُ عنه لا محالة تحديد معنى وبلورة فهم الحقيقة، مع العِلْمِ أنَّ الفلسفة الحديثة والمعاصرة جاءت ضدَّ الحقيقة، وبالتالي تمَّ انتقادها وتخريبها. الحقيقة غير موجودة بالنسبة لفلاسفة القرن 19م (نيتشه كأُنموذج) حيث اعتبروها مجرَّد دوامةٍ من الأوهام يسبحُ فيها الإنسان، الحقيقةُ واليقين لا وجودَ لهما أبداً. الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925- 1995) ربطَ الكتابة بخطوطِ الانفلات، حيث تجمعهُما علاقةٌ وطيدة، فالكتابة من منظوره الخاص هي رسمُ خطوطٍ جديدة للانفلات، بمعنى فتح آفاق لم تكن مفتوحة من قبل، هذه اﻵفاق هي آفاقٌ للحياة. الكاتب ينغمسُ كثيراً في القراءة، يجبُ أن يكونَ قارئاً نهماً، وليس مجرد قارئ عادي، أو بالأحرى القارئ الجمل على حدِّ تعبير نيتشه. القراءة فعلٌ إنسانيٌّ يجعل من الكاتب يسبحُ في ما أنتجهُ العقلُ البشري، وينفتحُ على تجارب إنسانيّة عظيمة، بواسطتها يتبنَّى أسلوباً معيناً، يتفرَّدُ به، وينتقي مواضيع كتاباتهِ بعناية شديدة، فالكاتب الذي يكتبُ في حيثيات المجتمعات، من الناحية السياسية، لا يمكنهُ أن يكتبَ عن الأشياء المطمورة كالحبِّ والجنس كأمثولة، والذي يكتبُ عن التجارب البوليسية لا يمكنه الانفتاح على أدب الهجرة، وهكذا دواليك… . الأسلوب هو مجرَّدُ ابتكار، لا يبتكرهُ أي كاتب كيفما كان نوعه، بل يبتكره الكاتب المُخضرم الذي راكمَ عدة تجارب، لأنَّ هذا الأسلوب هو معطى فيزيقي يلتصقُ بذاتيّة الكاتب وبصميمتهِ السرديّة. إنَّ الأسلوب هو لغة الأحشاء، وبه يتميّزُ الكاتب عن البقية؛ وبه يَكْشِفُ روعةَ الكاتب وطقوسيّتهُ. هذا الأسلوب يمكنُ القول أنَّه مجرَّد تمتمة داخل لغةٍ تُمارِسُ سلطةً على الكاتب والقارئ، وبالتالي يصيرُ هذا الأسلوب لويغةً داخل اللُّغة، فهو جوهرٌ فريد قادرٌ على تغيير مضمونِ النَّص. الأسلوبُ سِرٌّ يوجد داخل جسدِ الكَاتِب. لا يمكننا أبدا الوثوق بالكلام، بل يجب أن نثقَ في الكتابة باعتبارها فعلاً بريئاً يتوخى إيصال رسالةٍ أو فكرة أو تسليط الضوء على قضيةٍ معينة. سقراط الذي لم يكتب، وسار على نفس الدرب المحلل النَّفسي “جاك لاكان”، هذا الأخير كان يُلقي محاضرات جمعها طلابه ونشروها. ألا يُمكننا اعتبار سقراط مجرد أسطورة أو وهمٍ تاريخي اختبأ وراءه أفلاطون؟ نحن لم نقرأ شيئاً لسقراط، سوى أقواله التي صارت عبارة عن موروثٍ شفهي لا غير. هي أسئلة محيرة، لا يمكنُ الجواب عليها إلاَّ بعد طرح عشرات الأسئلة. يجب السعي إلى الإعلاءِ من شأن الكتابة عن الكلام، فالكتابةُ هي تاريخٌ مضيء، أما الكلام فهو مجرَّد هرطقات، وكلُّ شخصٍ قادرٍ على الكلام، ولكن ليس كل شخصٍ له القدرة على الكتابة. فالكتابة، خصوصاً الكتابة الأدبية، هي مثل الفن الحديث برمّته، تنطوي في آنٍ على استيلاب التاريخ وعلى حلمِ التاريخ.