لا يمكن فهم موقف الداعين إلى ترسيم اللهجة العامية المغربية واعتمادها في سلك التعليم إلا في إطار الفوضى القيمية التي يعيشها العالم وضمنه مغرب النخبة المرتبطة بالمرجعيات الغربية وعلى رأسها نظرية الحقوق الجديدة ونظرية الفوضى الخلاقة التي أصبحت أسلوب عمل في سياسات الدول الكبرى وخصوصا أمريكا. وإذا كانت هذه المرجعيات أفرزت العبثية بقيم الإنسان وثقافته وأخلاقه وقلبت الحقائق، فان الذين يتبنون هذه المرجعيات عندنا أو على الأصح مقلدوها في مغرب النخبة السالف ذكرها يجسدونها بمظهر أكثر بشاعة وفقا لقاعدة ابن خلدون الحضارية “المغلوب مولع بتقليد الغالب” بل يبالغ في تقليده. إن المتأمل في موقف هؤلاء الداعين إلى ترسيم العامية واعتمادها في أسلاك التعليم يدرك بجلاء مظاهر هذه الفوضى والتيه وغياب المعنى وهلم جرا من المفاهيم التي تنتمي إلى الحقل الدلالي “العبثية”. إن هؤلاء يتوهمون ويحاولون الإيهام بعلمية وواقعية هذه الدعوة ويزعمون أن اللغة العربية الفصيحة وافدة على المغرب وهي مظهر من مظاهر التبعية للمشرق قافزين على حقيقة أن هذا الأخير يشترك معنا في الدين واللغة و الحضارة الإسلامية متناسين تبعيتهم العمياء للغرب في إباحيته و تفرنسهم أكثر من الفرنسيين، وأنت إذا تابعت إذاعات هؤلاء وجرائدهم وندواتهم (الندوة التي نظمها منتدى «أماديوس» لصاحبه إبراهيم الفاسي الفهري حول التعليم و الندوة التي نظمتها مؤسسة «زاكورة» لصاحبها نور الدين عيوش حول” اللغة واللغات في المغرب”. ) تجدهم يتحدثون الفرنسية وكأن الفرنسية هي اللغة الأم للمغاربة أما العربية الفصحى فهي وافدة!!! إن دعوى ترسيم العامية و اعتمادها في سلك التعليم لا يسندها أي مرجع عقلي أو منطقي أو واقعي ذلك أن هؤلاء يعلمون أكثر من غيرهم أن الدارجة المغربية تختلف من منطقة لأخرى، فلهجة الشمال غير لهجة الوسط وهي ليست اللهجة الصحراوية أو الشرقية وهكذا، وبالتالي فان اعتماد العامية يقتضي القيام بالجهد الذي قام به الأوائل عندما جمعوا لهجات القبائل العربية وعملوا على جرد المشترك منها ووضع قواعد ضابطة لها. ثم إن هؤلاء يقفزون على حقيقة علمية لا يختلف حولها اللغويون وهي أن الحديث عن تخلف اللغة وضعفها لذاتها غير صحيح، فاللغة تتطور وتنمو وتزدهر بأهلها وتتراجع وتضمر بتراجع أهلها واكبر دليل لهؤلاء على ذلك هي اللغة العبرية التي كانت شبه لغة ميتة لا يتكلم ولا يكتب بها احد واليوم أصبحت مواكبة للعلم وهي المعتمدة في التعليم وليست اللغة الدارجة المتداولة طبعا. فلماذا لم يسأل هؤلاء أنفسهم لماذا اعتمدت (إسرائيل) لغة كتبها الدينية بدل العبرية العامية المتداولة؟ ولماذا لم يعتمدوا الانجليزية مثلا على اعتبار أنها متطورة وان الانجليز وفيما بعد أمريكا هم من ساندوا ” إسرائيل” بالمال والعتاد؟ إن السؤال الجوهري الذي ينتظر إجابة من هؤلاء هو: أي حضارة وثقافة وقيم وعلوم وتكنولوجيا تحملها العامية المغربية على مستوى الإرث الحضاري المكتوب؟ وما موقع القران الكريم والسنة النبوية اللذان كتبا بالعربي الفصيح؟. طبعا لا ننتظر جوابا من هؤلاء لأنه لن يكون جوابا علميا ما دام هؤلاء يقفزون على الحقائق و يشتغلون بمنطق الفوضى الخلاقة ونظرية الحقوق الجديدة التي أخلت بنظام الحياة الإنسانية. فالحقيقة الساطعة هي أن العربية الفصحى تختزل وتختزن إرثا حضاريا عظيما في الفلسفة والفقه والأدب والشعر والعلوم التي سطعت شمسها على الغرب وفي مقدمته فرنسا مرجع هؤلاء. وهم يعلمون جيدا أن لغة الإعلام والتعليم والبحث العلمي في مرجعهم فرنسا ليست العامية الفرنسية، فهؤلاء لأنهم درسوا في فرنسا و قبل ذلك في البعثات الفرنسية المعتمدة بالمغرب يدركون صعوبة التفاهم مع الفرنسي العادي لان اللغة التي درسوا بها أكاديميا باعتراف المثقفين الفرنسيين في حق الكتاب المغاربة الفرانكفونيين تماما وكأنك تحدث مغربيا عاميا في الشارع باللغة الفصيحة. إن ما يجب أن يكون هؤلاء واضحين فيه مع الشعب المغربي هو أن يواجهوا حقيقة أن اللغة العربية الفصحى هي لغة القران والسنة وهي مناط فهمهما وفي المحصلة فإن فهم الإسلام والقيام بسائر عباداته كالصلاة وقراءة القران تعبدا يتوقف على اللغة الفصحى بلاغة ونحوا ما دام هؤلاء يقولون إنهم يشتغلون في إطار دين الدولة الرسمي الإسلام وأنهم مسلمون حتى ينطقوا هم بالعكس، رغم أن دعوتهم هاته تحمل أكثر من دلالة وأبرزها إبعاد المغاربة والأجيال الصاعدة على لغة القرآن والحديث و بالتبع إبعادهم عن الإسلام. إن هؤلاء بهذه الدعوة يقعون في مأزق حقيقي يكشف الوجه الخفي والهدف الحقيقي وراء مثل هذه الدعوة ، فإذا كانت نيتهم وهدفهم بالفعل هو التدريس بالعامية المغربية للخروج من أزمة التعليم وتحقيق التقدم فهذا رجوع ونكوص خطيرين لأن هذا الأمر لن يجعلنا متخلفين فقط، بل منقطعي الصلة بالإرث الحضاري و بالعلوم والفلسفة والدين والثقافة العلمية المكتوبة سواء باللغة العربية الفصحى أو باللغات الأجنبية. ونكتفي هنا بتحدي هؤلاء بالإتيان بمراجع في هذه العلوم المذكورة له امتداد تاريخي وحضاري في الزمن الماضي والحاضر. كما أن الرهان على الترجمة سيكون فاشلا لان العامية لهجة تخاطب شفهية ترتبط بالتعبير عن الحاجات المادية البسيطة واليومية ولا تتضمن مصطلحات علمية أو فلسفية إلا من قبيل (ما يقترحه هؤلاء بديلا عن اللغة الفصحى ” كليلي على لسوري”). و إذا كانت نيتهم هي إبعاد اللغة العربية الفصحى لأنها لغة القران والسنة في أفق إبعاد المغاربة عن الإسلام وإحلال الفرنسية والعلمانية المتطرفة التي تقمع حرية المسلمين في لبس الحجاب وبناء المآذن كما فعل المستعمر في الظهير البربري، والحفاظ على المصالح الفرنسية بالوكالة، فان هذه النية تتطلب من هؤلاء جرأة اكبر ووضوحا ابرز في الإعلان عن هذه الأهداف حتى يكون الشعب على بينة من أمره فيختار بإرادته مواقف هؤلاء أو ينبذهم لأنهم يعادون هويته وقيمه وثقافته و يواجهوا الشعب. إن العبثية واضحة بجلاء في هذه المواقف المستندة إلى المرجعيات والمواثيق الدولية والى النظريات الجديدة في حقوق الإنسان والحرية والتي تبناها هؤلاء وجعلوها أسمى من الوطنية و الدستور الذي ينص على إسلامية الدولة المغربية وان اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد.