تقول الأسطورة إن صورة النهر في لوحة يوقظ خريرها النائم فكيف الحال بإعلانات تمطرك شآبيب صور لمنتجات تحفر في ذهن المشاهد تناقضا صارخا بين الصوت الشجي الذي يرتل عليه آيات تنهاه عن الشعوذة و تسمو بروحه عن الغرائز الشهوانية، فيما الصورة تجره عبر هذا الصوت إلى التمتع بغرائزه طولا وعرضا، بل وتجعل فكره ينحصر داخل بوتقتها فقط، ويكفيك حساب عدد الإعلانات الجنسية بالمقارنة مع باقي الإعلانات الأخرى حتى تعرف أنهم يريدون أن يجعلوا الناس تفكر بقضيبها وفرجها، كل هذا على صوت القرآن وباستدراج منه، فكيف ذلك؟ القصة بدايتها هادئة إذ تحذوك رغبة في سماع القرآن والسمو بروحك وأخذ قسط راحة من مشاغل الحياة وعقد صلة ربانية بخالقك، تتجمع هذه العوامل كلها لتولد عندك رغبة شديدة في الإنصات لآيات بينات من الذكر الحكيم مرتلة بصوت شجي، تشغل قناة ليشنف آذانك الصوت الشجي بالمعاني السامية فتطمئن روحك أو لم يقل تعالى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب،" ولأننا اعتدنا على القرآن سماعا، لذا فإن الصوت أول ما يطرق آذانك، ثم يأتي فعل التحويل عندما تنظر لترى صورا تدعوك للاتصال والحجز لدى شيخة أو مشعوذة مع مدح براعتها وقدرتها الخارقة في إتيان المعجزات، كيف لا وهي ترجع المطلقة وفي ساعات قليلة، وتفك السحر وتجلب الرزق، هذا الرزق لم يعد ضروريا أن تشقى لأجله فالإشهار يعرض عليك خاتما يأتيك به ويغمرك به أسرع من غراب سليمان،.. مغالاة لا تستبعد معها يوما أن يكتبوا وإرجاع الروح للميت . تذهلك مفارقة الصوت والصورة، والتي تضم في ثناياها أبشع استغلال إعلامي للدين، فهذه القنوات تستعمل القرآن والدعاء لبيع منتجات وتمرير خزعبلات تتناقض مع الآيات نفسها في مفارقة تراجيدية، فبينما تسمع الآية " ولا يفلح الساحر حيث أتى" تجد المعلن عن رقم مشعوذ يمتهن السحر وعلاجات بمراهيم تداوي ما عجز الطب عنه، مرفق بكلمات منتقاة بعناية شديدة تمجده لإبهار المتلقي، ومجوهرات لجلب الحظ وفك السحر وإصلاح البين بين الأزواج بينما المقرئ يرتل بخشوع " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما"، وآيات عن الحجاب بينما صورة تعرض منتجا للعناية بالبشرة يظهر فتاة فاتنة، بارز صدرها أكثر من ابتسامتها. استحمار الناس واستغباؤهم يتعدى هذا إلى الكتابة بلغة عربية بأخطاء فادحة تركيبا ونحويا وإملائيا، ويقف عقلك مشدوها لما تسمع وصلة للدعاء فيها "اللهم أصلح مناهج التعليم ووسائل الإعلام"، لله درهم أترون إنهم يحملون هم الإعلام المهني وهم المنظومة التعليمية بل والأنكى من هذا أن يظهر أمام ناظريك إعلان فيه: إننا من خلال قناتكم نقدر مشاهدينا ونتجنب وضع أي صور إعلانية لا تتناسب مع عظمة القرآن فالمصداقية هي الوسيلة الإعلانية …" فكرة القصة إذن استغلال للدين من خلال إذاعة صوت قارئ مشهور يرتل الآيات في خشوع وخضوع، وأنت في غمرة خشوعك تتسرب صور الإعلانات الإشهارية لمنتجات متعددة وكذا للشيخات والمشعوذين وحتى إن شعرت في البداية بعدم توافق يصيب عقلك بالخدر فسرعان ما ستتعود عليه وتصدقه، فالاستراتيجية الإعلامية لهذه القنوات تدرك هذا تعرف تأثير الصورة على الإنسان، وما صارت قنوات مشاهدة إلا لأنها تعتنق فكرة أن الصورة بألف كلمة. الإشهار يعتمد في بنائه على الصورة والسند اللغوي والتعليق المؤطر، وفي إعداد الوصلات الإشهارية يحرص القائمون على تسريب مضامين بين ثناياه للإيحاء بالسعادة والكمال وتحقيق الأحلام ومختلف الاستيهامات المنزاحة عن ملل العادي، والملبية لكل الاحتياجات، وذلك لضمان التأثير في المتلقي، إذ الإشهار فعل يحث على رد الفعل. كما أن الصورة فيه نجاخها يتمثل في أن تنسي المشاهد الكلام، وتجعله أسيرا لها، مما يغيب ما يقرأ من آيات عن ذهن المتلقي، ومنه يصير القرآن وسيلة إغراء ثم يتم وضع طعم استهلاكي للمشاهد بشكل غير واع، إذ تبرمجه إن احتاج منتجا ما فستتمثل له صورة المنتوج الذي لطالما تابع صوره، حتى بصمت في عقله، فالإشهار يبيع أو في الحد الأدنى يحاول ذلك فهو إخبار للجمهور بوجودِ منتجٍ أو خدمة مع إثارته وتجييش الرغبة في امتلاك هذا المنتج، أو الاستعانة بهذه الخدمة. وهذا يتعدى استغلال الدين إلى استهدافه والحط من قداسته لدى المتلقي، خاصة عند استحضار أن التلفاز متاح للجميع بمن فيهم الطفل والمراهق والأمي والذي لا يملك حصانة فكرية تمكنه من مجابهة الإشهار بآلياته وأساليبه في الإقناع والبرمجة والتكييف واستثارة الانفعالات . وإذا كانت وسائل الإعلام خاصة التلفزيون قادرة على التأثير على الجمهور المتلقي ، وتكوين قناعات جديدة ودحض أخرى قائمة وصبغ الشرعية على أمر ما من خلال الإقناع وحشد الطاقات باتجاهه، وهو ما يخلق جمهورا مؤمنا بما يعرضه حتى وإن كان يخالف قناعاته حيث التكرار وإغراء الصورة الانفعالي والعقلي يرسخان الفكرة المطروحة ويجعلانها قابلة للتصديق . ما يؤدي إلى تشكيل الآراء والمعتقدات والاتجاهات ومن ثم السلوك داخل المجتمع، فإنها أيضا مرآة عاكسة للمجتمع وبنيته، فالإشهار تلبية لحاجات مجتمعية، عدا أنه استنتساخ للواقع أو إعادة إنتاجه أو التمويه عليه من خلال المضاف التقني، بما فيها التفنن في صناعة زاوية النظر والمشهد والوضعة.. إذن فالمفارقة بين القرآن المرتل على الفضائية والإعلان الموجود هو صورة تكشف التناقض الحاصل في المجتمع، حيث صار العادي هو ادعاء شيء وفعل الشيء المناقض له بالسر أو العلن، والتصريح بأمر فيما القصد مختلف تماما، إنه تجل لما نعيشه من تناقض في مجتمعاتنا وتدعيم له. لا يمكن أن نرى في هذا إلا عبثا يحرق موجات الشفافية والوعي،ويسرق وهج الطمأنينة من قلب مؤمن يريد أن يركن إليها في حياة صارت متعبة، ويبرز بشكل جلي عهر الإعلام، وهذا أمر جلل في زمن يطغى فيه الترهل الفكري واختفاء الوازع الديني وكذا موت الضمائر،وفي ظل أجواء مجتمعية محتقنة يبدو اللجوء إلى قوة عليا والارتكاز على طاقة قادرة هو الحل فيؤدي بك التيار إلى الدين لتجد هذا الوازع صار أداة للتسويق وكعب أخيل تقنص عبره، بل ويفتح بوابة استغلال الدين على مشراعيها في شتى المناحي إن سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو إرهابيا أو لأجل مصالح ذاتية…. * باحثة في الإعلام والتواصل