إن الأحاديث الواردة في السنة النبوية من الأدلة القوية عند بعض من يدافعون على إمكانية تلبس الجن بالإنس، وسنذكر بعضا من هذه الأحاديث النبوية ونتأمل في دلالاتها ومقاصدها من خلال ذكر تعليقات بعض العلماء والمفسرين عليها. حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني علي بن الحسين رضي الله عنهما أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا. (البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الأحكام، باب الشهادة تكون عند الحاكم، 13/158). علق الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني على الحديث قائلا: وقوله : " يبلغ " أو " يجري " قيل : هو على ظاهره ، وأن الله تعالى أقدره على ذلك ، وقيل : هو على سبيل الاستعارة من كثرة إغوائه ، وكأنه لا يفارقه كالدم، فاشتركا في شدة الاتصال وعدم المفارقة . وفي الحديث من الفوائد جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من تشييع زائره والقيام معه والحديث مع غيره ، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة ، وزيارة المرأة للمعتكف ، وبيان شفقته – صلى الله عليه وسلم – على أمته وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم . وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار. (فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، كتاب الأحكام، الجزء الثالث عشر، ص 17. الملحوظ أن الحافظ ابن حجر العسقلاني لم يعتبر هذا الحديث دليلا على امكانية دخول الجني في بدن الانسي!!. حديث المرأة السوداء: "حدثنا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ : أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ لِي ، فَقَالَ : " إِنْ صَبَرْتِ فَلَكِ الْجَنَّةُ ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ " ، قَالَتْ : إِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لا أَنْكَشِفَ . فَدَعَا لَهَا". وقد علق الامام ابن قيم الجوزية على هذا الحديث قائلا: الصَّرَعُ صَرَعَانِ: صَرَعٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَصَرَعٌ مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ. وَالثَّانِي: هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ فِي سَبَبِهِ وَعِلَاجِهِ. وَأَمَّا صَرَعُ الْأَرْوَاحِ فَأَئِمَّتُهُمْ وَعُقَلَاؤُهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ وَلَا يَدْفَعُونَهُ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ عِلَاجَهُ بِمُقَابَلَةِ الْأَرْوَاحِ الشَّرِيفَةِ الْخَيِّرَةِ الْعُلْوِيَّةِ. قال الدكتور مولاي المصطفى الهند: "مما يؤكد أن هذه المرأة كانت مصابة بالصرع وليس المس، أي أن مرضها من قبيل الصرع العضوي، وليس لصاحبه إلا أحد أمرين: إما العلاج- والدعاء جزء منه، وإما الصبر في حالة ما إذا لم ينفع العلاج. ولهذا قلنا لو كان ما بهذه المرأة مسا جنيا لما تردد الرسول الكريم لحظة في دفع ما لحقها بها من الأذى، خاصة وأنها تتكشف ويسبب لها ذلك حرجا شديدا!"( كتاب قضية مس الجن للإنس في الفكر الإسلامي بين الحقيقة والوهم، مولاي المصطفى الهند، ص 46، طوب بريس، الطبعة الأولى، 2004. إن المتأمل في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الباب يدرك أن غالبيتها لا ترقى إلى درجة الصحة، وللأسف هي التي يستدل بها بعض مؤيدي هذه الظاهرة، وأخص بالذكر الذين يمتهنون الرقية الشرعية، بل يفسرون الحديثين اللذين أوردناهما، على هواهم دون الرجوع إلى أقوال العلماء فيهما. أما حديث بن عثمان بن ابي العاص الذي قال: "شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيان القرآن، فضرب صدري بيده فقال: يا شيطان اخرج من صدر عثمان". فما نسيت منه شيئا بعد أحببت أن أذكره. فهو حديث رده بعض العلماء وطعنوا في صحته. قال صاحب مجمع الزوائد: الحديث فيه عثمان بن بسر ولم اعرفه وبقية رجاله ثقات. (الهيثمي، مجمع الزوائد، الجزء التاسع، ص3). أكثر من هذا، الحديث يدل على دعوة المسلمين إلى أن يجنبهم ضلالات الشيطان وإغراءاته ووساوسه، وليس فيه أية دلالة على وقوع المس أو التلبس. إن الأحاديث الواردة في هذا الباب لا تشير صراحة على إمكانية مس الجني للإنسي، أو بعبارة أخرى لا تدل على ذلك دلالة واضحة، وبهذا يمكننا القول بأن الذين يثبتون هذا الأمر يحملون النصوص ما لا تحتمل.