حين كان والدي شيخاً قوياً لم أكن أعلم في فيض هبوب المطر يذروني الفقد كالقفار بلا ماء ولا كلأ ولا جدار أن ساقيتي مبتورة بقلبٍ يرقب مواسم الجفاف وأنني كنت معلقاً من ساقي المجنونة على درب السفر ليس لي سوى حذاء كسيح وفراشة ترابط قرب هامة الضوء كنت أغفو مثل قط القرية خلف قرميد الطاحون حين تعلمتُ الخطو انتصبتُ على ضفة النهر كبتلة رمّان تتعثّر بي فوانيس البيت لتنجو من هلاك تتآمر حماقتي ومكر الأشقاء يكون نصيبي منها خيبات تنبت صباراً فوق وسادتي ويصبح خدي لوح تعليم لسادة القوم أجنحتي لم تألف ريش الأتقياء فصرت ضالاً صغيراً منحرفاً يستحق الجَلْد لمعصيته لم أكن وجه والدي فنصب لي كتاباً مقفلاً أقرأُ فيه معلّقة الطاعة صرتُ ألام كلما عانق جسدي الطري السوط ويكشف صراخي عورة القبيلة تصبح المسافة بين الوجع والضلوع طحالباً سوداء وأنفاً عنيداً كنت أداوي بالأحلام ضعفي في الغابة الكئيبة أُطعم اصابعي لعصافير السرو أبحث عن وعد مغلق كنت بسيطاً مثل الأطفال وحزيناً مثل نوافذ الانتظار أقام أبي الحدَّ عليَّ دهراً لا أجنحتي أطلقتني ولا دموعي طهرتني لم أجد رملي في لون البستان ولكن صادفني الشجن منكفئ على وجهه حثَّ بي الخطى نحو ظمأ المروج فما سر هذه العتمة الصغرى ومن أين يأتي كل هذا اليباس؟ كنت مع والدي غريباً كسيحاً في هذا الصقيع المتورّم بقيت هنا غريباً إلا من بياض بليد موسوماً على عزلة الحياة تتسطّح الصور يا أبي في المسافة بين عينيك واحتراقي حتى يصبح الدرب رمادي البصر لذلك هذا الحزن باقٍ أعلّل الحزن بالحزن ولا يترجّل قلبي أنام ويظل مستيقظاً ينادي في غفلة الأحلام لا تلمني يا أبي إذا ما ضاق غيمي وتعثّر حقلي أنا المنهك حد الخدر أرنو إلى هامتك طفلاً يحرس حلقات الضوء أبصرُ خطّ النعش وتعب العابرون ولا أرى قبراً يا أبي من أين يبزغ الأرق؟ ولماذا تنتفض شروخ قلبي؟ وفي كل صدعٍ موطئاً لريح سوداء هذا طيفكَ موشوم على ظلّي يستمطر نحري متوثباً حيث طفولتي المربكة تغتسل بالحمم ضرير يا ربّي هذا الغيم الرمل يطوف فيه والماء يغرق والأحلام الصغيرة صارت أفاعٍ بأجنحة يتعثّر الدرب بها ما زلت أراكَ أبي في بقايا الأمس حبلاً فاغراً حرابه يتأرجح في كل ليلة تأتي في عتمة الوقت تُطلق عصافير بحركَ كيف لي أنا المنكسر بلا شاطئ فارغاً كالعدم أن أهدهد موجك الصاخب لأنعتق من الخطايا مثل نخيل الواحات هكذا ذات عجاف أغلق الشجر طيور التراب وتعب البستان من عشبه في حلكة العصف رحل والدي إلى رقود طويل لا زلت عند ازدحام الخطى قرب القبور يخالط دمعي تراب المسافة بين حنظل ضلوعي وذاك الأفق المتدلي في الخلد مثل قطوف لا تنتهي أكرهكَ كنتُ وأحبكَ الآن وأعلم أنني واهن وأن ليلي يختنق بقطرات تتدحرج وغمّي لا يمضي صرت أبكيك مرتين ولا زال صباح وجهك يُبدي الاحتضار لم يبقى يا أبي من الوقت سوى موسم خارج الشجر تتدلّى خطاه نحو كوة النور كريحٍ حزينةٍ بينها وبين سور المقبرة موعد أغلق زمنه وظل ينتظر *كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمارك