حين أنهارالاتحاد السوفياتي و المنظومة الاشتراكية الدائرة في فلكه في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، خرج من المطابع أحد أهم الكتب التي أثارت جدلا حول العالم في تلك المرحلة و هو كتاب نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي فرانسيسكو فوكو ياما و الذي اعتبر فيه أن زمام العالم، اقتصاديا و سياسيا و عسكريا باتت في قبضة الغرب و الولاياتالمتحدة على وجه أكثر دقة. غير أن عقلا استراتيجيا بوزن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسنجر قال آنذاك إن روسيا لديها دائما طموحات إمبراطورية. و لذلك فإن عودة روسيا إلى المسرح الدولي غير مستبعدة، إن لم تكن مؤكدة. و الناظر اليوم إلى واقع السياسة الدولية، يقف أمام واقعية توقعات كسنجر. فروسيا عادت لتأخذ دورها في صياغة القرار الدولي، و ربما ليس من العبث أن يبادر كسنجر مؤخرا الى الذهاب الى موسكو لمقابلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مسعى منه لتقريب المسافات بين واشنطن و موسكو. و يمكن اعتبار هذا اللقاء جاء كنتيجة لاعتراف أمريكي بعودة روسيا قطبا عالميا، و هو الاعتراف الذي ظهر جليا خلال الحملة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب، حيث أكد مرات عدة أنه ذاهب الى ابرام صفقة مع روسيا و الى حدود ذهب فيها الى الحديث عن عمق العلاقة مع الرئيس الروسي. كلام ترامب و فريق حملته لا يشكل نشازا بالولاياتالمتحدة بل حتى المناوئون لترامب من الدوائر الامريكية يقرون بذلك. فعلى سبيل المثال كتبت صحيفة الواشنطن بوست في السابع من يناير من العام الماضي (فكرة وجود قوة وحيدة لم تعد حقيقة، أهمية روسيا و الصين مثل أهمية الولاياتالمتحدةالامريكية، مفهوم القوة العظمى عفا عليه الزمن). اليوم و بعد التحسن المفاجئ في العلاقات الأمريكية-الكورية الشمالية، ثم اللقاء في سنغافورة بين رئيسي الدولتين، يبدو أن واشنطن تحاول إفهام الرأي العام العالمي بأنها لا زالت "القوة العظمى"، فبعد نهاية الحرب الباردة عام 1990 تسلمت الولاياتالمتحدةالأمريكية قيادة النظام العالمي الجديد، (نظام الأحادي القطبية). فتربعت على عرش هذا النظام طيلة عقود. هذا النظام الدولي أكسب واشنطن قوة و نفوذا كبيرين على الساحة الدولية، فأحداث هامة (كحرب تحرير الكويت، و تفتيت يوغسلافيا الى دول صغيرة، و الهيمنة على المنظمات الدولية (الأممالمتحدة، الناتو، البنك الدولي…). و طغيان العولمة المتوحشة التي مكنت أمريكا من لعب الدور الأبرز دوليا من خلال صناعة الثقافة و صياغة الفكر العالمي بآليات مثل الصناعة الهليودية. صحيح أن الولاياتالمتحدةالأمريكية استطاعت تتويج نفسها زعيمة العالم (1990-2003)، لكن بعد التغييرات التي حصلت من عودة روسيا الى الساحة الدولية بقيادة فلاديمير بوتين و صعود الصين اقتصاديا و بروز دول إقليمية كإيران و تركيا في الشرق الأوسط و جنوب افريقيا و البرازيل و الهند، بدا جليا أن النظام العالمي يشهد تغييرات جذرية و أننا نعيش مرحلة بدايات تشكل عالم بمعايير مختلفة. هذا العالم في القانون الدولي يتطلب علاقات دولية جديدة في عالم متعدد الأقطاب، اليوم نشهد صراعا قويا بين هذه الأقطاب من أجل حسم مسألة التموقع الجيواستراتيجي على الساحة السياسية الدولية. دولاند ترامب، عكس ما يروج البعض بوصفه بذاك الرجل المجنون، الفاقد للأهلية. ترامب يدرك جيدا ما يفعله، إنه يقود عملية هزة قوية لإعادة تركيب النظام العالمي و المؤسسات الدولية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك النظام القائم على التوازنات بين الكتل و على تنسيق دولي و تحالفات لا تتغير. ساكن البيت الأبيض يقوم عن وعي و بشكل متعمد، بتحطيم كل البنية المتعددة للنظام العالمي، تحت شعار "أمريكا أولا". بداية بانسحابه من اتفاق باريس للمناخ الى إعادة النظر في التبادل التجاري الحر الى تبني سياسية خارجية صادمة من تجلياتها (الانسحاب من اتفاقية المناخ، الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، نقل السفارة الأمريكية الى القدس، توبيخ حلفائه التقليديين و تعمد إهانتهم،…..). الحقيقة أن ترامب داهية فهو يتعمد احداث هزات ليتفرغ للطرف الأساس بالنسبة له هو (الرئيس الصيني "شي جينبينغ". ترامب مقتنع أن التنافس الحقيقي اليوم يتحدد بين القوتين البارزتين دوليا (الصين و الولاياتالمتحدةالأمريكية)، و يجب على أروبا أن تدرك أن حقبة النظام الاقتصادي متعدد الأطراف قد انتهت، هناك اتفاق ضمني بين بكين و واشنطن بشأن رفض مبدأ التعددية أو على الأقل الحذر منها. فعلى غرار أمريكا، الصين ترفض التعددية التقليدية، فالحلم الصيني يتقاطع مع رؤية "أمريكا ترامب"، (الدولتين القويتين الكبيرتين مستعدتان تماما للتحرك بحسب مصالحهما). يظهر بجلاء اليوم أن الإدارة الأمريكية تسير نحو سياسة تركز على مصالح البلاد و الحلفاء، و ترك العالم بشكل متدرج في مشاكله و صراعاته. و عدم لعب دور الشرطي في العالم إلا لخدمة مصالحها و في نفس الوقت اطلاق العنان لإسرائيل ودعمها. ترامب يريد فرض أسلوبه لمحاربة الإرهاب و سن عقوبات على شعوب بعينها أو أفراد. و التقرب من روسيا و جعلها حليفامستقبليا. يقوم ترامب بتنزيل أفكار نظرية (صفر أقطاب) بشكل متدرج. هذه النظرية التي أطلقها أستاذ العلوم السياسية إيان بريمر و ديفيد جوردون، و كان أساسا لكتاب إيان (كل أمة لنفسها. الفائزون و الخاسرون في عالم بدون أقطاب). حيث تنص النظرية على أن عالم اليوم و المستقبل هو عالم بلا أقطاب و بلا قوى عظمى. تؤكد النظرية على الجزم بأهمية أن تقوم كل أمة بنفسها فقط، و أن تراعي مصالحها كشيء واقع الآن مع تركيز قادتها على مجتمعاتهم المحلية و قضاياهم الداخلية، كأمر يجب أن يتوسع مستقبلا. قد يبدو أن نظرية (صفر أقطاب) غير واقعية، بالأخص في عالم متشابك و معقد. لكن المتأمل في بعض جزئياتها يدرك دقتها و تتلاقى بشكل دقيق مع ما يدعو له ترامب، من خلال برامجه و سياساته. فهو يدعو الى تخلي الولاياتالمتحدةالامريكية عن الأهداف التكتيكية الجزئية و الامتناع عن التدخلات العابرة للحدود، و التركيز على الداخل، و قيادة العالم بشكل استراتيجي و بمدى حركي و زمني طويل، بحيث لا يقع في فخ الصراعات الزمنية القصيرة. لذلك فهو يكرر دائما أن "غزو العراق أكبر خطأ في تاريخ الولاياتالمتحدة".