ملاحظات وتوصيات ما أكثر المعالم التاريخية، ذات الطابع الإقتصادي والأمني والإجتماعي، التي كانت تغص بها هذه المدينة الكولونيالية العروي. والتي إما تم الإجهاز عليها كليا، أو في أحسن الأحوال تخريبها وتشويهها. والتي لا يتسع المقام للتفصيل فيها، ولذلك فقد اكتفينا فقط، باستعراض بعض المعالم التي عايشناها في طفولتنا وصبانا، والتي شهدنا وشاهدنا انتصابها في سماء وفضاءات المدينة، ونحن آنذاك صغارا قاصري السن والفهم، محدودي المعرفة والإدراك بقيمتها التاريخية والحضارية. كما شهدناها وهي تطمس طمسا، وتذبح وتجتث اجتثاثا أحمق، بغباء صارخ وجهل باذخ. على يد من يُفترض أن يكونوا حماتها، من القائمين على شأن المدينة المحلي، وغيرهم من بعض الساكنة. وحتى التي نجت منها، طالها التشويه والتغيير والعبث والمسخ. هذه المعالم والشواهد التاريخية الكولونيالية، التي كانت المدينة زاخرة بها إلى عهد قريب، هي نفسها التي أثارت أشجان السيد فرانشيسكو أرينازا وأحزانه، ومعه أشجان كل الغيورين على الثقافة والإرث التاريخي للمدينة. نتيجة ما لحقها من إهمال وتخريب وإجهاز ومحو، وربما حتى سطو. أثارت أشجان مواطن منحدر من الضفة الشمالية، لا يربطه بالمدينة سوى حبل حب قديم، وعشق متجذر متقادم. في الوقت الذي لم تتحرك فيه طرفة عين مَن كانوا سبب هذه المذبحة الثقافية. فقد برهن الرجل أنه أكثر وفاء وإخلاصا وغيرة على المدينة، من بعض أبناء جلدتها. لكن، قد يقول قائل، أن الرجل إنما أغدق على المدينة من حبه وعشقه، بالنظر إلى حنينه إلى عهد استعماري استيطاني بغيض ولى وأدبر وانتهى. فقد يكون في الأمر شيء من الصحة، لو كان في ماضي الرجل، ما يشي بما له علاقة بذلك. ولكن واقع الحال يؤكد أن الرجل، لم يكن أبدا مستوطنا مكتمل الأركان، يوم رحل عن المدينة، وخلفها وراء ظهره. حتى يأسف على ذلك، ويحن إلى مدينة كان ينتفع من خيراتها ومزاياها. ولكن الرجل كان يربطه ويشده إلى المدينة حب طفولي راسخ إلى مراتع الصبا، التي فتح فيها عينيه، وقضى بها أجمل أيام طفولته البريئة. فهو لم يكن قد بلغ أشده بعد، يوم غادر المدينة رفقة أهله، بعد نهاية مرحلة الوجود الإسباني في البلاد. حاملا معه بين ضلوعه وجوانحه، عشق المدينة وذكرياتها الجميلة. فظلت ربوعها وفضاءاتها وأشخاصها وأهاليها، ظل كل ذلك عالقا بذهنه وروحه وكيانه. ولا عجب أن تتحرك اليوم مواجعه وحنينه، حتى وهو قد أصبح شيخا طاعنا في السن، وبلغ من الهرم عتياً، إلى ماضي المدينة التليد، قبل أن تمتد إليه وتعبث به أيادي الجهل والتخريب. ويتعرض للمد الأعمى وللزحف العمراني الجشع، الذي لا يُبقي ولا يذر. برغم أن الرجل لا يربطه بالمدينة سوى كونها مسقط رأسه، ومرتع طفولته، خلال عهدها الإستعماري البائد. فالرجل أحب المدينة وعشقها بشكل جارف، ولذلك كان حبه وعشقه لها، أقوى حتى مما كان يُكنه لها، بعض أبنائها العاقين، من عديمي الوفاء والإعتراف لها بالجميل. ممن توالوا على تحمل مسؤولية تدبير شؤونها المحلية، من ارتباط منفعي واهتمام مصلحي ضيق ليس إلا. وتحديدا من الذين عاثوا فسادا وخرابا، في ذاكرتها وإرثها التاريخي، عن جهل وغباء أو إصرار وترصد. لقد قدم الرجل بارتباطه وهيامه الكبير بالمدينة، درسا لكل الضمائر المريضة السقيمة، التي يُحركها ويَحكمها الجهل واللامبالاة. درسا في كيفية الوفاء بحب هذه المدينة الرائعة، والغيرة على جمالها ومعالمها ومرافقها، التي تمثل الفضاء الجميل، الذي يحضن جميع ساكنتها بدون تمييز. رغم اختلاف هوياتهم وانتماءاتهم وألوانهم ومستوياتهم وطموحاتهم وتطلعاتهم. ويتسع بسخاء نادر، لأفراحهم وأقراحهم وآلامهم وآمالهم وأوجاعهم. ويتحمل بصبر وأناة، حماقاتهم وتفاهاتهم وتجاوزاتهم. قدم الرجل، رغم رحيله عن المدينة منذ مدة ليست بقصيرة، وانفصاله الجسدى عنها، درسا في كيفية الإستمرار في الإغداق على المدينة التي احتضنته بدفئها لسنوات معدودات، بمَدد الحب والرعاية والعرفان، طول مشوار حياته. فقد عشقها عشقا جارفا، ولا زال هذا الحب يأخذ بتلابيبه، حتى وهو متغلغل في سن الشيخوخة بأميال وفراسخ..! فلنتعلم جميعا، من درس السيد فرانشيسيكو أرينازا، كيف نحب مدينتنا ونتعلق بها، بل كيف نعشقها ونهيم بها. ولكن أن نحبها، يعني قبل كل شيء، أن نمنحها جزءا من كياننا، وكثيرا من اهتمامنا وعنايتنا، وغير قليل من وقتنا. أن نعشقها، يعني أن نبذل لها الرعاية والإهتمام والعناية. وأن نحافظ عليها، ونصون معالمها وشواهدها العمرانية التاريخية. ونحمي فضاءاتها ومؤسساتها المختلفة. ونعمل على ترقيتها وتنميتها وتجميلها وتنظيمها وتنظيفها.. حتى نجعل منها ذلك الفضاء الجذاب الساحر، للعيش المشترك المُتساكن المطمئن للجميع. إن المذبحة الثقافية المخزية، التي تعرضت لها المعالم العمرانية التاريخية الكولونيالية بالعروي، عبر فترات متتالية، بداية من الستينات. وتعرية المدينة بل تجريدها بالكامل تقريبا، وخاصة خلال السبعينات والثمانينات، من جزء لا يستهان به من إرثها التاريخي، وذاكرتها الثقافية الجماعية. في غياب من ينتصب وقتها للدفاع عنها، ويشملها بالمرافعة والإحتجاج، وخوض معارك البقاء والوجود. في ظل غياب متطوعين بررة وقتها، يذودون عن مدينتهم غوائل القرارات العرجاء، يوم كانت الأمية والجهل يجثمان على أكثرية أبنائه وشبابها. يوم كانت مسالمة مستسلمة عزلاء، بلا قوة ممانعة تصد عنها غباوة الأغبياء، ولا فريق دفاع، يتولى دفع القرارات السخيفة والتافهة عنها. يوم كانت مكشوفة بالكامل، تحت رحمة عمليات تخريب وتدمير، على يد كائنات مدججة بالأمية والجهل المركب. ومعتدة بمواقعها الإنتخابية المغشوشة. يوم كانت وحيدة في مواجهة جحافلهم وقراراتهم العمياء، المليئة بالغفلة واللامبالاة. يوم كانت في مواجهة عقوق بعض أبنائها المستقوين بالسلطة وزمام القرار المحلي. إن كل هذا، ليمثل غصة حارقة، وألما متغلغلا في نفوس كل الغيورين على المدينة، وعلى ماضيها الغني بالبطولات والأمجاد. وحاضرها البئيس التعيس، المبتور تقريبا من هذا الإرث التاريخي. ومستقبلها غامض المعالم، الذي ينذر بكثير من المشكلات الحضرية المتفاقمة. غصة ناجمة عن وقوع "أكبر عملية "سرقة" تعرضوا لها، وهي سرقة الذاكرة..!" بتعبير محمد فجري. سرقة جزء من إرث المدينة المادي المكون لتاريخها. وتأتي فداحة هذه السرقة الرمزية من فداحة الخسائر المترتبة عنها، ومن استحالة استعادة المسروقات أو استرجاعها. مما قد يكون له الأثر الكبير في إحداث فراغات وفجوات، في تاريخ المدينة العام، وتاريخ معمارها الكولونيالي تحديدا. وبالتالي ثقوبا وندوبا في ذاكرتها، وأجزاء من سياقها التاريخي. ذلك لأن عملية التدمير والإتلاف التي تعرض لها المعمار المذكور هي ، بتعبير الدكتور محمد المدلاوي، "عملية تخريب تفوق الهدم الفيزيقي بالمعاول على الأرض، لأنها تستهدف الماهيات في الذاكرة". إنها إقصاء واجتثاث لمعالم وملامح تاريخية، مشكلة للهوية والثقافة والتاريخ. وإن هذا ليؤكد أن تدبير شأن المدينة المحلي وقتها، كان قد شهد فعلا منذ البداية، عبور بعض الكائنات المجردة من حس المسؤولية والغيرة. كائنات فاقدة للحس الثقافي والتاريخي، وعابثة برموز المدينة الثقافية والتاريخية، والتنموية إجمالا. ذلك أنه لم يحصل في تاريخ دورات المجلس العديدة، أن بَرمج القائمون على شأن المدينة المحلي منذ عقود، أو أدرجوا نقاشا ينصب حول حالة المعالم التاريخية والثقافية عموما بالمدينة. وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا التراث المادي، الآيل للزوال والأفول. والعمل على ترميمه وإنقاذه وتثمينه والتعريف به. مع أنهم ظلوا يَنظرون بلامبالاة وإهمال، إلى بقاياه تتآكل وتتهاوى وتُشوه أمام أعينهم. من دون أن يحرك فيهم ذلك ساكنا. بل كانوا يساهمون في الإجهاز عليه بشكل مباشر، من خلال منح رخص الهدم والبناء، التي أتت على الكثير من المعمار الكولونيالي فدكته دكاً. ولا عجب، فالثقافة هي آخر ما يُفكر فيه في هذه المدينة، وخاصة منها ذات البعد التاريخي. وهو ما يمثل مبعث تساؤلات واستفهامات عديدة لا تنتهي. فربما قد يكون الباعث والدافع إلى مثل هذا التهميش واللامبالاة التي شهدها الإرث العمراني الكولونيالي بالمدينة، نابعا من حساسية النبش في هذا الملف. وهو الذي يكون قد شهد عمليات عبث وتلاعب محتملة. فلا تزال لحد الآن، بعض الأسئلة المحيرة والمقلقة مطروحة، بشأن مصير بعض الأوعية العقارية، التي كانت تحتلها المعالم الكولونيالية، والإجهاز الذي تعرضت له، وكيفية انتقال ملكية بعضها. علما أن وضعيتها القانونية بعد الإستقلال، كانت تقضي بأنها في معظمها داخلة في حكم الأراضي والعقارات المسترجعة. وقد تكون طبيعة الوضعية العقارية غير المحفظة للأراضي التي كانت خاضعة للإسبان في مجموع المنطقة الخليفية بالريف، قد ساهمت بشكل أو بآخر، في الغموض والتعقيد الذي طال مصير بعض الأراضي والعقارات الكولونيالية بالمدينة والإقليم ككل. والتي من غير المفهوم كيف انتقلت ملكيات كثير منها. في وقت كان فيه الوضع العقاري في عموم الإقليم، وضعا مهلهلا، ومفتوحا على جميع أشكال التلاعبات والعبث. خاصة بعد رحيل الإسبان، مخلفين وراءهم فوضى عقارية عارمة، فيما يخص التسجيل والتحفيظ وإثبات الملكية. وهو ما يفسر الملفات والقضايا الكثيرة التي طرحت بشأن الترامي على مِلك الغير. وقد كان هذا العامل وحده، كافيا ومحفزا لقيام أشكال التهافت على كثير من العقارات والأراضي على الصعيد الإقليمي. كما قد يكون شهد آنذاك، تواطؤ بعض المسؤولين والمتدخلين وقتها. وهو ما يستوجب اليوم ربما، فتح ملف العقارات المنتمية إلى العهد الكولونيالي، والتدقيق في وضعيتها السابقة والحالية. وبالتالي، إن اقتضى الحال، فتح ملف محاسبة من ثبت تقصيرهم أو تورطهم، في كل ما قد يكون لحق هذا الإرث، من تدمير وإجهاز وعبث. (يتبع)