السفر يا أحبائي تجربة رائعة مشوقة، لطالما حلمت، وأنا صغير، أن أسافر إلى بقاع الدنيا. ومازلت أذكر كيف كانت هذه الرغبة الملحة تشدني لقراءة كتب الثقافات والرحلات، وأتتبع ما كتبه بعض المفكرين والأدباء ممن كنت أعشق كتاباتهم. أذكر في هذا المفكر مالك بن نبي رحمه الله في كتابه الشيق الممتع "مذكرات شاهد على القرن". لقد كان الكتاب حقا لؤلؤة نفسية بالنسبة لي جعلتني أتيه في متاهات السفر وتشعبات الثقافة وتنوع الألسن.. ولا أنكر كم كانت رغبتي كبيرة أيضا في أن أعيش التجربة نفسها التي عاشها مالك بن نبي من شدة حبي له وولعي بأفكاره.. وأذكر أيضا كيف كنت أبحث عما قام به الرحالة ابن بطوطة من أسفار ومغامرات، وكيف استطاع أن يسافر إلى بلدان مختلفة في زمن عز فيه كل شيء.. لا أخفيكم سرا، لقد عشقت الرجل وعشقت معه طنجة قبل أن أراها، ولم أرها إلا وأنا في عمر السادسة والثلاثين.. وأول ما فعلته عندما زرتها، يا سادة، أني بحثت عن ضريح الرحالة الفذ.. وأنا أجوب الأزقة والدروب في طنجة، وأسارع الخطى للوصول إلى ضريحه كنت كمن يبحث عن شيء فقده ويبحث عنه بكل لهفة وشوق.. وكأني حين أصل إلى الضريح أكون كمن جاب العالم بأسره ولحق بابن بطوطة في بعده عن الأرض والوطن.. ولا أخفيكم أيضا، فلقد كان إحساسي غريبا جدا لا أستطيع أن أصفه لكم بغير هذا الذي قلت.. إحساس بالوصول إلى نشوة خاصة بعد الفوز في مسابقة عالمية، وإحساس بالغربة في الآن نفسه. وأنا واقف بباب الضريح "المسدود" سافرت بخيالي الواعي إلى كل أرض وقعت عليها أقدام الرجل العظيم.. شممت رائحة الأطعمة في القاهرة، وغرابة البناء واللسان في الصين، وراحة النفس والطمأنينة في مكة.. أحسست أني تزوجت كل نساء العالم وتركت نسلي بينهم شاهدا على مرور عربي مغربي لا يريد من هذه الدنيا سوى أن يكون عبدا للغة العربية معتزا بالزواج منها.. ورأيتني أرى العالم يتكلم هذه اللغة العظيمة.. وأذكر هنا أن زميلا سألني يوما: ما قصتك مع العربية؟ فقلت هي قصة حب قديمة يصعب أن أسردها لك يا صاحبي.. لذلك قلت له باختصار، وأنا أرجو أن يكون في اختصاري هذا دلالة عن هذا الحب والزواج الذي بينا. قلت له: أحببتها فعشقتني ودافعت عنها في مخافر شرطة الكارهين لها والحاقدين عليها، فقالت أنا راودته عن نفسه فاستسلم.. فوجدت نفسي بطلا من أبطال الملحة الشهيرة "طروادة" الذي انتزع حبيبته بالقوة ممن لم يعرف قيمتها وجمالها، فنشبت حروب طويلة، ومات بسبب هذا الحب أناس كثيرون.. كنت أرى في كل صريع شهيدا.. وكنت أساوم بالاستسلام لأنها "امرأة تراثية" ويزوجونني بأجمل منها من حسناوات الشرق والغرب.. فقلت: يا سادة.. لو وضعتم جمال الدنيا في يميني وشقراوات الغرب في يساري على أن أترك هذه "العربية القرشية المليحة الجميلة" ما تركتها.. وكيف للحبيب أن يترك محبوبته بعد أن أنقذته من الضياع، وسقته من ماء جرتها التي ملأتها من النبع الصافي.. وحملتها على أكتافها مسافات طويلة دون أن تهرق نقطة ماء واحدة حرصا علي لأرتوي أعواما، وأغتسل فيصير دمي قبل جسدي نقيا.. أتريدون أن أترك من أنقذت حياتي؟ وحملتني على كتفها لأرى ما خلف الأسوار؟ لولاها لبقيت حبيس بلدتي الصغيرة مغبرا أشعث الرأس.. ولولاها ما قطعت المسافات الطوال، وما دخلت قصور السفراء والوزراء وأشراف القوم في بلدانهم..