إن الفهم والتركيب والتحليل، ثم إدراك الظواهر والحكم عليها، يتطلب طرح السؤال المناسب، ذلك أنه الوسيلة الناجعة لاستنطاق الظواهر والأحداث، ثم استخراج ما بداخلها من أسرار والدفع إلى معرفة مسارها؟ وإن كان حدث البلوكاج الحكومي يطرح نفسه علينا بإلحاح، فإنه يترتب عليه أن ندرك مداخل فهمه وتحليله. والمدخل الرئيس لذلك هو طرح السؤال، ولكن ليس أي سؤال ! إن السؤال الذي سيفيد نسبيا في معرفة مسار البلوكاج الحكومي، لا يتعلق بمتى ينتهي البلوكاج الحكومي، بل الأهم منه أن نسأل عن الغاية الواقفة وراء عرقلة، لميلاد الحكومة الثانية لبنكيران. فطرح هذا السؤال سيعفينا نهائيا من طرح سؤال آخر يتعلق بمآل الوضع، حيث أن الإجابة عن هذا الأخير لا تعدو أن تكون محصورة في اجابتين، إما تحقيق الغرض من البلوكاج أو العكس، كما أن نفس السؤال بدوره يحيلنا إلى نفي كون الجهات الواقفة وراء البلوكاج يهمها البلوكاج في حد ذاته. فما الغاية من هذا البلوكاج إذن، وأي منفعة سيحصلونها من خلاله أولئك الواقفون وراءه ظاهرا وباطنا؟ يقودنا طرح السؤال حول الغاية وراء البلوكاج الحكومي، إلى البحث عن أسرار تجربة حكومة بنكيران الأولى، ومكامن قوتها وتميزها عن باقي التجارب الحكومية السابقة، وبالتالي معرفة الأسباب التي ترجع إليها نية رفض بنكيران لمرة ثانية؟ الواضح من خلال القراءة الأولية أن حكومة بنكيران لم تختلف كثيرا عن سابقاتها من الحكومات، فلم تحقق هذه الحكومة معجزات تجعلها متفردة بين نضيراتها، ففيما يخص الإصلاحات القطاعية مضت بنفس النفس الذي كان عليه غيرها من الحكومات، رغم الشجاعة التي أظهرتها في بعض الملفات الحساسة مثل المقاصة والتقاعد ورفع الدعم عن المحروقات والاتقطاع من أجور المضربين. بالتالي لا يمكننا وصف حصيلتها إلا بالضعيفة والمتواضعة، تواضع الصلاحيات الدستورية المخولة للسلطة التنفيذية بالمغرب، وكذا للوضع الخاص والحرج الذي يمر به الإقتصاد العالمي والوطني. فأين يكمن السر إذن؟ لا ينفك يظهر سر حكومة بنكيران في بنكيران ذاته، كونه شخصية مسؤولة لم يعرف مثلها المغرب قط في خصائصها وامتيازاتها، فمقارنة بسيطة بين جل رؤساء الحكومة التي عرفهم المغرب منذ الاستقلال وإلى اليوم، ستجعلنا نخرج بسر تميزه. تتميز هذه الشخصية الاستثنائية في النسق السياسي المغربي بقوتها التواصلية المتميزة، والتي جعلت المغاربة يتابعون الأحداث السياسية عن كثب بالرغم من بؤس ووضاعة حالتها، كما جعلتهم يتملكون حق التعبير عن أرائهم وحاجاتهم وتفاعلهم مع الأحداث المتتالية طيلة خمس سنوات لا أسخن منها سياسيا في تاريخ المغرب، رغم الاستقرار النسي الذي نعيشه. أما الميزة الأخرى التي تميز بنكيران وتزعج القصر باستمرار، فهو ذكاءه وصبره ودهاءه في استغلال الكلام لقلب موازين القوة لصالحه في آخر اللحظات، من خلال احراج مخالفيه ومعارضيه. لقد كان دهاء بنكيران خلال الخمس سنوات الأخيرة كفيلة بدفع المخزن لإخراج جل أوراقه، دون أن يقع بنكيران في خطأ المواجهة المباشرة، التي أسقطت تجارب الحكومات الوطنية السابقة (اليوسفي وعبد الله ابراهيم). اليوم ونحن نرى كيف استطاع بنكيران أن يدفع القصر إلى الارتباك، وتسجيل أخطاء متتالية ومصيرية، ندرك تمام الإدراك أن بنكيران عمل على الاستثمار فيها. إن زلة التحكم المتمثلة في دفع أخنوش قائدا لجناح البلوكاج ورفض الاستقلال وما تلته من بلاغات سرع الإقاع ودفع الأحزاب المشاركة في البلوكاج لطلب نصيبها من الكعكة قبل أن تنتهي المعركة وينقلب عليها. الصبر بدأ ينفذ والدفع إلى انتخاب رئيس البرلمان من الاتحاد، كانت أسوء تجلي لنفاذ الصبر والارتباك. كما ارتبكت الدولة العميقة حين وضعت بيضها في سلة البام دون غيره في الانتخابات، ما جعل صاحب سلة الاستقلال يغضب ويقلب الطاولة مبكرا، معلنا اصطفافه مع بنكيران الذي لا يتغول على حلفائه. الأن وبعد مضي أزيد من مئة يوم على هذا البلوكاج، يقف كل من التحكم وبنكيران على طرف نقضي، يدبر فيه الأول أزمة اختناقه، فيما يقف الثاني ينتظر في راحة حركة الأخر ليناور بتصريحات هنا وهناك تترك وراءها نقيع زوابع الرأي العام الغاضب، فيرتبك الطرف الأول من جديد. فهل ظهرت لكم حقيقة الاختناق الآن؟ إنه ذكاء بنكيران الذي يحسن "الدريبلاج" على حد تعبير رجل الأعمال المعارض كريم التازي.