إن كتاب "العودة الخيالية" من الإبداعات الرائعة، التي ألفها الكاتب الروائي الأفغاني عتيق رحيمي، تمجيدا لروح أخيه الذي قتل بأفغانستان. فهو كتاب تمتزج فيه الصورة الفوتوغرافية مع الكتابة، ليحكي لنا واقعا مرا عاشه الكاتب خلال طفولته بأرض الشعر والورد والبلبل. فالكاتب يحاول العودة إلى أفغانستان عن طريق الصورة، محاولا بذلك رسم كل الجروح التي تجتاح الذاكرة. وهنا يجعل من هذا الإنتاج الأدبي الرفيع المستوى خطابا يمتزج فيه أيضا الشعر والنثر والحكي، وهذا يعني أن الكاتب في رحلة عبر الزمن، يحكي من خلالها ماضي أفغانستان الموشوم بألف جرح وجرح. ويريد رحيمي -عبر كل ذلك، أخذ صورة لكل جرح وإحياء هذا الماضي عن طريق فن الصورة الفوتوغرافية قائلا على سبيل التوضيح مثلا: "أريد أن أصور هذه الجروح، قبل أن تأتي لتصوّر كابول، جاء قبلك مصورون كبار والتقطوا أروع الصور، بالطبع صوّروا الجراح نفسها، لا أبحث عن الجمال، أبحث عمّا يعيد أحاسيس إنسان يشعر بالألم، وهو يرى ويشاهد عن قرب ندوب هذه الجراح في كلّ مرّة، عندما نرى هذه الندوب التّي لا تندمل نعجز عن نسيان الألم، لذا لا تنسَ، هذه ندوبي أنا، ولهذا أنا أبحث عنها حتى لا أنسى". والمقصود من هذا، أن أفغانستان تثير المصورين والزوار بحزنها وكآبتها، لاسيما وأن الحرب جعلت منها بلدا دمويا تائها في الرماد والبارود. كما أن الكاتب لا يبحث عن الجمال في الكتابة، وإنما يحاول إعادة إحياء كل ما عاشه خلال هذه الفترة، التي عرفت مقتل أخيه واغتيال الشاعر الأفغاني الكبير بهاء الدين مجروح. وليس غريبا أن يستفتح عتيق رحيمي كتابه هذا بإهداء لروح هذا الشاعر. ثم إن "العودة الخيالية" هي بمثابة ثورة أدبية جديدة، ذلك لأن الكاتب، يعتقد أن الكتابة وحدها لا تكفي لرسم الجرح العميق، ولا تستطيع أن تجعله يحس نفس الإحساس الذي عاشه في الماضي. فالصورة الفوتوغرافية لوحدها قادرة على إعادة إحياء الماضي بنفس الإحساس القديم، كما أنها تقيد اللحظة وتجعلها خالدة. ولعل هذا السبب الرئيسي لدمج الصورة مع الكتابة، لكي يخلق نوعا من التكامل والتزاوج. فإذا كانت الصورة قادرة على إحياء الماضي بالنسبة للكاتب، فإنها تخلق مشكلا تأويليا عند القارئ؛ أي أن الصورة تظل صامتة أمام أعين القارئ، الذي لن يرى سوى الأبيض والأسود كألوان طاغية ووجود شخوص أفغانية عادية. لذا فالكتابة تلعب دور المكمل في هذا الكتاب، لأنها تقود القارئ إلى فهم كل صورة في إطارها التاريخي والجغرافي. وهنا يتضح أن دمجهما لم يكن اختيارا عبثيا، وإنما كان مخططا له من طرف الكاتب، الذي لا يتوقف عن إدهاش قرائه بإبداعات جديدة تتسم بالحداثة والجمال الفني. ومن ثمة، وبعد 20 سنة من المنفى والغربة، يعود الكاتب إلى أفغانستان ليجد فقط الدمار والخراب. هذا المشهد دفعه إلى التقاط الصور وكتابة هذا العمل الأدبي تعبيرا عن الحزن وعن المنفى، وهو أيضا تعبير مقدس عن العودة التي اتخذت طابعا خياليا. ولذلك، فإن خمسون صورة توثق الجروح التي ما زلت تثقل ذاكرة الروائي، الذي لم يجد سوى الكتابة للتحرر من هذا الماضي الأليم. كما أن "العودة الخيالية" تكشف عمق أزمة الهوية التي يعاني منها الكاتب. فالأنا في حالة فوضى يشبهها الكاتب بالصفحة البيضاء التي تفتقد إلى الكلمات، إذ مهما حاول كتابة شيء على هذه الورقة يتبخر ويختفي، وهنا يخاطب الكاتب القارئ قائلا: "لم يكن أحد يفهم لغتي، وانتهى بي المطاف بالتخلي عن الكلمات واللجوء إلى الصور. لقد مسحت كل شيء من الذاكرة". فأزمة الهوية هاته، هي بالأساس نتاج للحنين والمنفى، والفوضى الناتجة عنهما ليست سوى تعبير صريح وعميق لذات الكاتب التي اصطدمت مع واقع تدمير أفغانستان وتحويلها إلى أشلاء ورماد. إن هذه الصدمة خلقت نوعا من اللااستقرار النفسي، الذي لم يستطع الكاتب التعبير عنه من خلال الكتابة، فكان اختيار الصورة ضروريا لتخليد هذه الجروح. فالعودة إلى كابول دفعت برحيمي إلى البحث عن جذوره وأصله، وبخاصة قبر أخيه، الذي جعله يحس أنه غريب في بلده أكثر من غربته في المنفى. ولقد كان الغرض الأساسي من دمج الصورة الفوتوغرافية واليوميات، هو استعادة صورة كابول القديمة، قبل أن تجعل منها الحرب أرض الدمار والحكومات الديكتاتورية والموت اليومي ورجم النساء في الساحات العامة. ولم تكن هذه العودة إلا خيبة أمل بعدما وجد الكاتب نفسه أمامك أطلال جنائزية، وأنقاض، وشوارع مهجورة، وحكايات أليمة. فاكتفى بالتقاط خمسين صورة تحت تأثير حنين الذاكرة المريضة، وعاد إلى المنفى مثقلا بحزن وغربة مضاعفين. وحسب الكاتب الجزائري محمد بومعزة, فالفوتوغرافيا في خدمة الألم والذّاكرة:عندما يشتاق رحيمي لبلاده التّي يراها على شاشات التّلفاز عبارة عن كومة من نار ورماد وجثث أطفال مزقتهم قنابل الغزاة الجّدد، بالنّسبة له كل من يقدم إلى أفغانستان حاملا السّلاح فهو غاز، روس البارحة وروس اليوم حتّى ولو كان الأمريكي محرّر البلاد من ديكتاتورية الطالبان، وعندما يشتاق لكابول أيام زمان، كابول السّبعينيات، يرحل إليها، يصوّرها ويكتب خواطر ومذكّرات عن مدينته التّي لم تعد كما كانت عليه سابقا، ما يحدث لها هو اغتيال النوساتالجيا، وأد الذاكرة القديمة بالأبيض والأسود، يقول..[تنظر إلى ماذا، تشاهد ماذا؟، تلمس ماذا؟، إذا أردت لصورك الفوتوغرافية أن تربطك بماضيك، أترك ، تخلّ عن آلة التّصوير المعلّقة حول رقبتك، لأن ما يلزمك ليست آلة تصوير تلتقط صوّرا صماء لا تتكلّم، لا تتحرّك، لا تعبّر عن نفسها، في الحقيقة تلزمك آلة تصوير أخرى تعرف وتشاهد ما لا تشاهده أنت، أقصد، الرّوح، روحي أنا..»، وروح رحيمي هي لغته الجّميلة التّي يروّض بها الألم، المأساة التّي تنغص عليه حياة المنفي، لغة تصنع فنّ القصص والحكايات منها يسرق الزّمن الآني ويهرب بروحه المعذّبة إلى ماض كان قريبا منه عبر تلك الصّور الفوتوغرافية. صفوة القول، إن خيبة الأمل هذه دفعت الكاتب إلى اختيار "العودة الخيالية" كعنوان لكاتبه، ذلك أن أفغانستان الذاكرة لا تشبه أفغانستان التي عاد إليها بعد 20 سنة من المنفى، ولم يجد فيها سوى الدم والدمار والخوف. وهنا تصبح الكتابة والصورة إذن، تمارين على تحمل الألم، ونبش في أعماق الذاكرة القديمة والمفقودة، ورثاء لزمنٍ سعيد وآفل.