الشروط الواقعية للممارسة السياسية غير حاضرة في العالم قطعا، والطغاة المستبدون كرسوا جهودهم الاخلاقية في سلب قوة التمرد الفطرية من الشعب. وجعلوا حقوق الانسان شعارا سطحيا لواقع خائر. "ان الغنيمة ليست للواحد وانما للكل". هذا المبدأ الذي لا نكاد نجد له حضورا في الفكر السياسي بالإطلاق،على الرغم من انه الإحساس المشترك بين العوام، الا ان المضطهد خط في عقول الناس نزعة التبعية والخنوع. ويبدو للوهلة الأولى ان حصول الامر يحتاج فطنة، بيد ان الذي يحيكه الواقع مغاير تماما. بل حاجتك فقط الى منهج أخلاقي، قد يكون"مبتدعا"، او قد يكون خليط بين ميول مكتسب عن فعل سلطة الدين: بما هو ترجمة لوحي إلهي، وجبروت التربية: بما هي غريزة مجسدة لقمع حرية الاختيار، هكذا ومع خبرة بسيطة في فن الخطابة تستطيع حشد الاف الجماهير خلفك، فلأن الدين في صورته الحديثة هو ما بقي من التراث القديم وهو المناضل الشهم عن حقوق الطبقات الهشة. فانه صار تلك العملة القوية بين ايدي الساسة - مؤمنين بالإثبات او نفيا - لكسب خواطر الافراد،وبعبارة أخرى:" به يصير البيدق على الرقعة ملكا", وهكذا لا يمكن ان تكون السياسة الا روحا برغماتية، لا تخدم الافراد بقدر ما تخدم الاسياد. الإنسان دو طبع فاعل وطابع انفعالي، وقوته الإبداعية ان لم توجه وفق ارادته فستصير خطرا على العوام، اذ ستكون حينها قد وجهت الى رغبة في العنف والابداع فيه، فهو ذلك الكائن المشاغب داخل قسم العالم، انه لا يحب ان يسيطر عليه،فإنسان اليوم الذي يعانق الأسد هو نفسه ذلك الانسان الذي كان يقتله بطلقة رصاص, وهو نفسه الذي كان يصعد الشجرةخوفا منه في مرحلة كان يشارك فيها الحيوان العيش، الا ان مع تطويرهلقدراته الذهنية استطاع توفير عالم خاص به وانعزل عن الطبيعة، وأضحتعلاقته بالحيوان أكثر ارتباطا وانسجاما, هي في عمقها علاقة مبنية على الاستغلال التام والسيطرة الكلية على الحيوان،فلما كان الانسان عبدا للطبيعة وخاضع لقوانينها, فانه انقلب عليها وأخضعها له، ليبقى هو ذلك الكائن الرافض للخضوع, وان طال عليه فلبد ان ينفجر لغمه يوما على النظام او التنظيم القائم. ان فن السياسة رغم قدرته على تدبير الاختلاف وتوزيع الثروة على الافراد, الا انه ظل ذلك المنهج الظالم والعامل على توسيع الفوارق الاجتماعية على حساب الخيرات العامة,و من تم تسييجها بسياج الملكية الخاصة، فتبقى السياسةذلك المنهج العشوائي المعتمد من لذن الدولة-التي يعتبرها نتشه "جهازا لإدارة العنف "-, انها الجانب المعتم في الوجود الذي يسلب الافراد حرية تقرير المصير الشخصي، ذلك ان المصير الجديد صار من اختيار الحاكم, ان لم يكن هو بالذات يخدم ارباباخفية، فمع اجتهاد الانسان في انشاء نظم تسهر على تنظيم الحياة, صار بذلك يدق طبول الخداع وابتداع قوانين تساير فقط البعض من المجتمع وليس الكل, تلك القوانين التي تمنح الحق في استعباد النوع البشري للنوع نفسه, بل سجن واقصاء و تعذيب افراد لإفراد باسم قانون غير متفق عليه من طرف كل الأجيال, فجيل الامس وضع نظاما هو نفسه الذي يسري على جيل الغد, دونما أي احترام لقانون الطبيعة البشرية,ذلك القانون الذي يعرف بالتطور البشري الراسخ في البنية الإنسانية قبل انتقاله من ما يعرف بحالة الطبيعة او الطور الحيواني الى حالة الدولة او المجتمع. ان للطبيعة صورة غير تلك التي نرسمها لها, فهي لم تكن يوما ذلك العالم الذي يحكمه الأقوى,وهي ليست ذلك العالم الذي يسوده الهمجية, بل هي "التجسيد الواقعي للعدالة", فليس الصراع القائم هو صراع نوع ما من اجل حفظ البقاء لذاته, فلو كان كذلك لامكن للصراع ان ينتهي بفوز طرف, بل حقيقة هذا الصراع هو ضمان البقاء للطبيعة عموما, وبالتالي توازن سحري يحكم المعمورة, فلما كان لهذه الطبيعة نظام تلقائي يحفظ الحق لجميع الاجناس, وكما ان للكون نظام خفي ثابت يسري على جميع الكواكب ويحقق لها التناغم, فقد كان من الضروري وجود نظام تلقائي يضمن للإنسان الحياة الحقيقية التي تليق به, والتي تحترم تطوره الناشئ عن العقل و الإرادة, وليست السياسة هي التي ستكفل للإنسان هذا الحق, بل انها 'الحياة العادلة", فالسياسة كلما نجحت كلما زاد نجاحها في سجن الحياة, وهذا يقابل عالمنا الراهن. فمثلا نظرة فاحصة للواقع السياسي المغربي خصوصا (والعربي عموما). تجعلك تهاب الانخراط فيه. بل إنك ستشعر انه من المعجز والمظلم حدوث استقرار سياسي في ظل جل القوى القهرية المتمثلة في اختلال النظام الاقتصادي التبعي, ونشوء عصبيات عرقية, واتجاهات فكرية-دينية مناقضة لبعضها البعض, والذي ما هو الا نتيجة لغموض الاتجاه الذي يساق اليه الوطن, وكذا تعدد الرؤى الاستراتيجية والتي بدورها ناتجة عن مبدأ الحرية السياسية، و هذا كله تماشيا مع النظام الديمقراطي الذي يستحيل انزاله في شكل خالص على الأرض السياسية, فلما كانت الديمقراطية في صورتها الاصلية تعني حكم الشعب نفسه بنفسه, فمجرد انفراد شخص واحد برأي يعارض الجمع لن تتحقق الديمقراطية المنشودة. اما العالم الغربي رغم تجاربه الباهرة، الا ان مكننة الافراد وتحويلهم الى ارقام مستهلكة،نجد لها الوقع الكبير على الشعوب، ما يولد رغبات معاكسة متمثلة في حركات مشاغبة تهدد السلامة والامن المشروعين. كما يولد أيضا على المستوى السيكولوجي عوالم ضيقة لدى الافراد، تفضي الى تعطيل الوظيفة الإنسانية وتسليم هذه الوظيفة الى عقل مدبر حاكم يسهر على تحصينها ضد ما تصبوا اليه الغريزة الإنسانية، الشيء الذي ينذر بردود أفعال قد نتفق على انها شريرة لكن في ظل الأنظمة السياسية سألتمس لها الشرعية. فالسياسة لم تعد ذلك الفن الذي وجب تطويره، بل "هي ذلك البناء الذي يجب على الجنس البشري هدمه"، ومن ثم بناء نظم أخرى تساير الطبيعة الإنسانية، هي نظم تجعل الكل في قبضة واحدة، لا أحد يعلوا، ولا أحد يسيطر،"انه ذلك العالم القادرعلى رؤية واحدة لمسيرة الوجود".