سنة 1990 م، و في معرض حديثه عن قرار إرسال القوات الأمريكية إلى الخليج، استخدم الرئيس الأمريكي جورج بوش "الأب" في خطاب وجهه إلى الأمة الأمريكية، مصطلح النظام الجديد، حيث تحدث عن فكرة "عصر جديد" و "حقبة للحرية" و "زمن للسلام لكل الشعوب". و بعد ذلك بأقل من شهر (11 سبتمبر 1990)، أشار إلى إقامة نظام عالمي جديد يكون متحررا من الإرهاب، فعالا في البحث عن العدل، وأكثر أمنا في طلب السلام، عصر تستطيع فيه كل أمم العالم غربا و شرقا و شمالا و جنوبا، أن تنعم بالرخاء و تعيش بتناغم. فما المغزى من مصطلح "النظام العالمي" الذي تحدث عنه الرئيس الأمريكي؟ إن جوهر النظام العالمي هو مجموعة القوانين و القيم الكامنة التي تفسر حركة هذا النظام و سلوك القائمين و أولوياتهم و اختياراتهم و توقعاتهم. و تتضمن الأخلاقيات و الإجراءات المتبعة حسب رأي دعاة النظام العالمي الجديد على أنها صورة من أشكال تبسيط العلاقات و تجاوز العقد التاريخية و النفسية و النظر للعالم باعتباره قرية واحدة. و النظام العالمي الجديد، حسب رؤيتهم هو نظام رشيد يضم العالم بأسره، فلم يعد هناك انفصال أو انقطاع بين المصلحة الوطنية و المصالح الدولية و بين الداخل و الخارج. النظام العالمي يتألف من عدة عناصر: 1- العولمة 2- نظام التجارة العالمي 3- النظام العالمي المالي 4- النظام العالمي السياسي 5- النظام العالمي الاجتماعي 6- النظام العالمي الافتراضي سنتطرق في مقالنا هذا إلى العنصر الأخير " النظام العالمي الافتراضي" نظرا للثورة المجتمعية و التغييرات العظيمة التي حققها العالم الافتراضي. فإذا كان عقد التسعينات أكثر ما يميزه هو ظهور شبكة الإنترنت عالميا، و إذا كان العقد الأول من الألفية الجديدة أكثر ما يميزه التمدد السريع للشبكة و تعدد أغراضها من ظهور المدونات و المنتديات و المواقع المختلفة بكل لغات العالم، فالمؤكد أن العقد الذي نعيشه حاليا يمثل ذروة صعود ظاهرة الشبكات الاجتماعية التي أصبح من الصعب تقزيمها و وصفها بأنها "شبكات افتراضية" باعتبار أن تأثيرها في الواقع أصبح أحيانا يفوق المؤثرات الواقعية نفسها. اليوم قوة وسائل التواصل الاجتماعي بلغت مبلغا عظيما في تسهيل الاتصال، و القدرة على حشد الجماهير، اليوم أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي المنفذ الأساسي لتسويق المنتجات و الخدمات حول العالم، بل و أصبحت أيضا المنفذ الأول الذي تتسلل منه المعرفة و الفهم و القدرة على مجاراة الوقائع و تسجيله و تحليله بشكل يفوق بمراحل عديدة، الطرق التقليدية من وسائل الإعلام التي سادت البشرية لعدة عقود. نحن نتحدث عن شبكة يرتادها أكثر من مليار مستخدم شهريا، تجذب عددا كبيرا من العلماء للحصول على قدر هائل من البيانات التي توضح السلوكيات و التفضيلات و الديموغرافيات لمئات الملايين من الأشخاص، و هو قطعا أمر غير مسبوق على مر التاريخ، لكنه أصبح ممكنا اليوم. تحليل هذا الكم الهائل من البيانات من طرف علماء و شركات متخصصة، يمكنهم من فهم سلوكيات الجماهير على الشبكات الاجتماعية، حيث يمكن استيعاب السبب الذي يجعل بعض الأشخاص الذين تراهم أنت لا يستحقون أي اهتمام و مع ذلك ينالون الأضواء بشكل أكبر من غيرهم على الشبكات الاجتماعية، فضلا عن معنى مخيف هو أن حساباتنا الافتراضية من الوارد جدا أن تكون جزءا من تجربة عالمية يتم إجراءها على الجميع دون معرفتهم، ناهيك عن استخدام بياناتنا من طرف شركات تحليل البيانات لوضع استراتيجيات للتأثير على آرائنا و مواقفنا و أفكارنا و ميولاتنا و حتى قرارتنا. و أقوى مثال على ذلك هو الفضيحة الأخيرة لشركة الفيسبوك بتواطؤها مع شركة "كامبريدج أناليتيكا" البريطانية التي عملت لصالح حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. حيث تم تبادل بيانات 87 مليون مستخدم للفيسبوك على نحو غير مشروع مع شركة كامبردج أناليتيكا التي تعمل في مجال الاستشارات السياسية. و رغم أن رئيس شركة فيسبوك مارك زوكربيرغ أقر (بالخطأ) و قال إنه يتحمل شخصيا مسؤولية الثغرات الأمنية في أكبر موقع تواصل اجتماعي في العالم. غير ان هذه الفضيحة المدوية تظهر بجلاء خطورة التحولات الهائلة التي أحدثها هذا "العالم الافتراضي" و عن مدى التأثيرات العظيمة التي يمكن أن يحدثها على مستوى كل المجالات. و مما يلفت الانتباه في عالم الشبكات الاجتماعية ، هو ما يطلق عليه من طرف المتخصصين في هذا المجال(الانتشار الفيروسي)، سواء للمنشورات أو الصور أو الإعلانات على الشبكات المختلفة (فيسبوك، تويتر، و يوتيوب و غيرها). و بالأساس قوة و زخم الشبكات الاجتماعية قائم على الانتشار الفيروسي للمنشورات مهما كانت حتى تصل لأكبر عدد من المستخدمين. و القاعدة الأساسية لتحقيق هذا الانتشار الفيروسي يكون في جودة الإنتاج، و هي تعني أشكالا عديدة (طرافته، غرابته، طريقة عرضه، طريقة كتابته..)، المهم أن الجودة هي أساس الانتشار الفيروسي في الشبكات الاجتماعية بشكل يلائم طبيعة المستخدمين، و يجعلهم متحمسين لمشاركة المحتوى على أوسع نطاق. و كثيرا ما يكون لهذه الظاهرة العنكبوتية أثر قوي جدا على مستوى الواقع، تؤدي الى تبعات (مجتمعية، سياسية، اقتصادية…)، و أفضل مثال على ذلك "الحملة الشعبية المغربية لمقاطعة بعض المنتوجات". المتمعن في ردود الفعل للمسؤولين المغاربة (العموميين و الخواص)، جراء "الحملة الشعبية لمقاطعة بعض المنتوجات"، يظهر للأسف أن البعض مازال يتعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي "باستخفاف"، مع علم الجميع أن أثرها أصبح هائلا بصورة لم تر البشرية مثيلا لها من قبل. و مع ذلك، الشبكات الاجتماعية بالنسبة للبعض هي مجرد شبكات افتراضية (للتواصل أو العمل أو التعارف أو مشاركة الاهتمامات، و لا يتصور أن لها أثرا يتجاوز ذلك. هذا التصور أثبت خطأه بشكل كامل، و الواقع أننا جميعا أصبحنا مغمورين تماما بسطوة الشبكات الاجتماعية بشكل أكبر بكثير مما يمكن تخيله، و أصبحت هذه الشبكات جزءا أساسيا من مفهوم السعادة و الغضب و الاكتئاب و الحزن، بل أصبحت أيضا أساسا محوريا راسخا لعدد كبير من مستخدميها بخصوص مفاهيم حياتية شديدة الحساسية و الخصوصية. و لا يجب أن ننسى الدور البالغ الذي لعبته الشبكات الاجتماعية قبل و أثناء اندلاع ثورات الربيع العربي، حيث كانت السبب الرئيسي في حشد الجماهير و رصد ممارسات السلطة في البلاد التي اندلعت فيها الثورات، بل و حتى توثيق اللحظات الصعبة و السعيدة. و ببساطة أكثر لقد أضحت الشبكات العنكبوتية الاجتماعية تصنع التاريخ. ختاما، أدعو "القادة و المسؤولين" في العالم العربي إلى التدبر مليا في الظاهرة السياسية المثيرة، لتأثيرات (الانتشار الفيسبوكي/التويتري) القوي للرئيس دونالد ترامب لأقوى دولة في العالم. تأثيرات تبدو واضحة في مواجهته لأقوى شبكة إعلام أمريكية و هي "سي إن إن"، التي ظلت لعقود تزلزل عروش معظم حكام العالم، فإذا بالرئيس الأمريكي يرفض الرد على مراسلها في مؤتمر صحفي و يتهم الشبكة علنا بالكذب و تزييف الأخبار، و يبدو أن ترامب بات أكثر ثقة في اعتماده على وسائل الاعلام الجديدة، التي لعبت دورا هائلا في منحه الأفضلية الانتخابية، حيث خاض الانتخابات وسط شبه إجماع من وسائل الاعلام الأمريكي التقليدية على معارضته، فلم يكن ترامب يحظى في بداية الحملة سوى بدعم نحو خمس أو ست صحف فقط في مشهد غير مسبوق تاريخيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. الأكيد، أن الاعلام الجديد لن يقتصر على التأثير في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بل سيغير مشهد النظام العالمي برمته، فالعالم يشهد تحولات جذرية و عميقة على مستوى كل الأصعدة. و علينا في العالم العربي أن نتفاعل بذكاء مع هذه التحولات كي نستطيع مواكبة متغيرات "النظام العالمي الجديد".