مع كل سنة ميلادية جديدة ، يقف المسلم حائرا بين مقتضيات هويته وخصوصيته المتميزة عن هذا الغرب الذي تشوب علاقتنا به مخلفات من تاريخ صراع ديني وثقافي وسطوة استعمارية لا زالت آثارها مستمرة ، وبين واقع تفوق حضاري فرض تقويمه الخاص على مجموع البشرية ، فأصبح ذا طابع عالمي وضرورة يفرضها الاقتصاد والسياسة وغيرهما . يحتفل الغربي ، سواء كان علمانيا لا يرى للدين دخلا في شؤون الحياة ، وهو الغالب الأعم ، أو كان ذا خلفية دينية يستحضر ميلاد المسيح عليه السلام ويعتبره إلها أو تجسيدا للإله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، والفرق بينهما أن الأول ينظر إلى المناسبة باعتبارها تقويما زمنيا ينبئ بنهاية سنة وبداية أخرى ، مع قسط غير يسير من النزعة المادية الاستهلاكية ، بينما هي عند الثاني تذكير بمعجزة الميلاد ، ميلاد عيسى من أمه مريم عليهما السلام ، وهو ما يتفق معهم المسلمون في شأنه ، إضافة إلى المعنى العقدي الذي حادوا فيه عن سبيل الحق والصواب . فهل يليق والحال كذلك أن نرفض مناسبة الميلاد رفضا باتا ، ونتعامل معها معاملة الشيء الواحد دون تمييز بين عناصرها ، ونسقط بالتالي في نوع من عدم الإنصاف وغياب للرؤية المقاصدية السليمة التي تضبط الميزان وتصحح الوجهة . حينما نتأمل بعض مشاهد السيرة النبوية ، نجد حالا شبيهة بما نحن عليه اليوم ، فحينما هاجر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة وجد بها قوما من أهل الكتاب ، وهم اليهود الذين كانوا يستوطنونها ، يحتفلون سنويا بيوم يقدسونه ويصومونه ، وهو يوم عاشوراء ، كما في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ، فقال لهم : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ قالوا : هذا يوم عظيم ، أنجى الله فيه موسى وقومه ، وأغرق فرعون وقومه ، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : " فنحن أحق وأولى بموسى منكم " ، فصامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأمر بصيامه. يتبين لنا إذن ، أن المنهج السليم الذي راعاه رسول الله عليه الصلاة والسلام ، هو ترسيخ مفهوم الاستمرارية بين الأنبياء ووحدة الدين الذي كان رسالتهم جميعا ، واعتبار المسلمين أولى الناس بوراثة هؤلاء الأنبياء ، لأنهم على نهجهم يسيرون في توحيد الرب سبحانه وتعالى وشكر نعمه ، مع اجتناب ما أحدثه الناس من بدع في الدين وتحريف لرسالته. بناء على هذا ، نرى أنه قد حان الأوان لنوجه للعالم رسالة إسلامية قوية ومعبرة ، يمكن اختصارها تحت شعار : " نحن أحق بعيسى منهم " . إن مناسبة الميلاد يجب التعامل معها وفق هذا المنظور ، انطلاقا من التمييز بين جانبين : - الجانب الأول ، هو ما يسمى باحتفالات الكريسماس ، ذات الخلفية الدينية المحرفة ، والتي تعتبر المسيح عليه السلام إلها أو ابنا للإله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. ولا يخفى ما خصصه القرآن الكريم من آيات بينات للرد على هذه التحريفات ودحضها. كما أن ما يرافق هذه الاحتفالات من مظاهر الترف والإنفاق الكبير على الهدايا والأضواء قد أصبح مثارا للانتقاد حتى بين أوساط بعض أعيان القوم ، وما تصريحات بابا الفاتيكان الأخيرة حول بدع هذه الاحتفالات ببعيدة . فهذا الجانب ، لا شك في أن خلافنا فيه عميق مع القوم ، لأنه خلاف بين عقيدتين : عقيدة التوحيد الخالص الذي جاء به القرآن الكريم ، وعقيدة التثليث التي حدثت بعد رفع المسيح عليه السلام وشوهت صفاء العقيدة وسلامة الفطرة. - الجانب الثاني : هو الجانب الزمني لمناسبة الميلاد في دلالته على دوران العام وابتداء عام جديد ، وهو أمر ينسحب على الإنسان الغربي سواء كان نصرانيا أو علمانيا ، كما ينسحب على المسلم وأي إنسان كيفما كانت ديانته ، إذ إنه أصبح تقويما عالميا يستعمله الناس كافة ، تبعا للغربيين الذين أبدعوا وابتكروا ، وفرضوا بذلك تقويمهم على العالم كما فرضوا الساعة بأوقاتها وأقسامها ، وغير ذلك مما انتشر بسبب جدهم واجتهادهم . فهذا الجانب يمكن اعتباره مناسبة عالمية لا تثريب على المسلم في التعامل معها على هذا الأساس واستثمارها في علاقاته مع الناس والأمم ، يهنئهم بمقدمها ويعبر لهم عن آماله الطيبة في السعادة والسلم ، فليس المسلم بالمنغلق عن العالم الذي يعيش فيه ، بل الأولى أن يكون مشاركا مميزا بحب الخير للناس وداعية لهم إلى ما معه من الهدى سواء بمنطقه أو بسلوكه ، وهذا أمر تحبذه كل فطرة سليمة ، ويقوم به من فضل عقله وتميزت عنده الأشياء ، كما هو حال الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه ، حيث نقل عنه على سبيل المثال أنه كان له عملة يشتغلون معه في مزرعة له وهم من غير المسلمين ، فكان يؤدي لهم أجرهم ويدعو لهم بطول العمر ، فيسرون بذلك ، مما يعني أنه كانت له ملكة في التواصل وكسب مودة الغير دون الوقوع في محظور شرعي صريح . فهل آن الأوان لنقتحم على الغرب خاصة ، والعالم عامة ، بعض الحصون التي ارتهنوها ، وجعلوها من خصائصهم وممتلكاتهم الثقافية إن صح التعبير ، وهي في الحقيقة ملك للمؤمنين بما كان عليه الأنبياء حقا لا ادعاءا ، فميلاد عيسى عليه السلام من مريم البتول آية من آيات الله للعالمين كافة ، قال تعالى : "والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين " (الأنبياء/91) وقال عز من قائل سبحانه : "وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " (المؤمنون/50 ) . فهل تعاملنا مع هذا الحدث بوصفه آية للعالمين ، وهل استثمرنا إيمان الغربيين بمعجزة الميلاد ليكون مدخلا إلى الإيمان الكامل والعميق بعظمة الله الواحد الأحد ، مثلما فعل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في حواره مع النجاشي ملك الحبشة الذي كان نصرانيا ، وتأثر أشد التأثر بخطاب هذا الصحابي الذي تربى في المدرسة المحمدية ، حيث عرفه بمعالم الإسلام وقرأ عليه آيات من سورة مريم حسبما جاء في مسند الإمام أحمد ، قالت أم سلمة رضي الله عنها وهي راوية القصة : فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم . ثم قال النجاشي : إن هذا ، والله ، والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . أحسب أن هذه المعاني العظيمة قد أصبحت غائبة بل مغيبة عند كثير ممن ينتجون خطابنا الديني في مسائل عدة ، منها مثالا لا حصرا مسألة السنة الميلادية التي تتكرر دائما ، لكننا نحصر الحديث عنها في جانب واحد فقط ، دون أن نستثمر ما في الحدث من عناصر صالحة لدعوتنا وديننا الذي جعله الله خاتمة رسالاته.