كتبت منذ ثلاث أو أربع سنوات، مقالات مقتضبة عن سير نجاح بعض العقول المهاجرة في الغرب، كما كتبت أخيرا عن نجاح السواعد والعضلات العربية في المهجر، منهم مقال عن المصارع و الرياضي الشاب الجزائري خالد لعلام المقيم في السويد، والذي افتك الميدالية الذهبية الدولية للمصارعة لدورة نهاية عام 2017 (1) ، وقد لاقى مقالنا ذاك استحسانا لدى القراء الشباب والمهتمين بقطاع الشباب، ونقلته حتى بعض يوميات الصحافة العربية المهاجرة بينما تناسته صحافة بلده و أرض أجداده الجزائر، وراسلني يومها أحد كوادرنا في الغرب، وهو من المشرفين في أوروبا على برنامج آلي في وكالة الفضاء الأمريكية "الانزز"، مستبشرا، بقوله "ماذا لو بقي هذا المصارع الشاب، يصارع كثبان صحراء الجزائر مع جمالها في أرض أجداده، أكيد سيموت عطشا معهم والماء على ظهورهم محمولا، في أرض تزخر بالغاز والبترول، دون أن يسمع به أو عنه أحد. لكن وجوده في الغرب نسمع عنه وعن إنجازاته ونتائجه الواعدة، لأن ميدان التسابق على الفرص هنا مفتوح لجميع الكفاءات مهما كانت مشاربها، وبالنسبة لهذه الحالة تحديدا بيئة السويد للشباب اليوم غير البيئة الجزائرية، ولا مجال لأوجه المقارنة و التشبيه، كما يثيره بعض السذج من سياسيينا المنتفعين والمنتفخين من خيرات الشعب، في خطاباتهم الأخيرة في ابواقنا الاعلامية"!! واليوم أعود لأميط اللثام عن هجرة العقول الجزائرية للخارج و ليس عن هجرة العضلات، نظرا لما يتعرض له هذه الأيام ليس فقط سلك التعليم من تدجين وتجهيل ومحاصرة، بل ما يعانيه الأطباء بعد سلسلة الاحتجاجات والإضرابات التي قاموا بها في الأشهر الأخيرة قصد تحسين أوضاعهم التعيسة، مما جعل بعضهم يخبرني بأسف شديد بقوله " سيضطر بعضهم لل"الحرقة" دون تردد ومهما كان الثمن في رحلة "سفينة المجهول"، قصد الهجرة للغرب ذهابا بغير رجعة، غير عابئين بالمخاطر، وقد تبتلعهم لا قدر الله، حيتان البحر أو تفترسهم وحوش البر، كما هو الحال بالنسبة للسوريين والمصريين وقبلهم العراقيين، وقليل من ينجو منهم ويفرض نفسه في ديار الغرب، لان غرب اليوم غير غرب البارحة، مع تنوع أمواج و سيول المهاجرين"!! العالم العربي يساهم في ثلث هِجرة الكفاءات من البلدان النامية. إن "هجرة العقول أو هجرة الادمغة" عموما هو مصطلح يطلق على هجرة العلماء والمتخصصين في مختلف فروع العلم من بلد إلى آخر طلبا لرواتب أعلى أو التماسا لأحوال معيشية أو فكرية أفضل، وعادة ما تكون هجرة العقول من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، كما تعد المنطقة العربية أكثر المناطق التي يضطر علماءها وكفاءاتها الى الهجرة وهم من المهندسين والأطباء وعلماء الذرة والفضاء، حيث أن أكبر نسبة مهاجرين للأدمغة في العالم من سكان المنطقة العربية وقد أظهرت بعض الدراسات التي قامت بها جامعة الدول العربية ومنظمة اليونيسكو والبنك الدولي، أن العالم العربي يساهم في ثلث هِجرة الكفاءات من البلدان النامية. وتذكر بعض التقارير أن 54% من الطلاب العرب، الذين يدرسون في الخارج، لا يعودون إلى بلدانهم، مما يفرز تبعات سلبية على مستقبل التنمية في عالمنا العربي. البلدان العربية بيئات طاردة للكفاءات هذه الارقام المخيفة بل المرعبة تدعم الفكرة التي تؤكد ان البلدان العربية اصبحت بيئات طاردة للكفاءات العلمية العربية وليست حاضنة او جاذبة لها، حيث يتساءل الكثيرون عن الاسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة الخطرة ، إذ ترجع مصادر علمية اسباب هجرة العقول العربية الى ضعف او إنعدام القدرة على استيعاب اصحاب الكفاءات الذين يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل، بالإضافة الى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، والإشكالات التي تعتري التجارب الديمقراطية العربية التي تؤدي في كثير من الاحيان الى شعور أكثر اصحاب الكفاءات والخبرات بالغربة في اوطانهم، مما يضطرهم الى الهجرة سعيا وراء ظروف أكثر حرية وأكثر استقرارا. وهنا تحضرني مأساة العديد من الكفاءات الجزائرية التي عادت للوطن لتنتحر حقيقة أم مجازا، والأمثلة معروفة للعام والخاص، ولا يسعنا إلا الترحم على الشهداء منهم. و المؤسف أن هذه الظاهرة أي ظاهرة هجرة العقول لا تزال مستمرة في الجزائر، بحثا عن مستقبل علمي أفضل وحياة رغيدة في البلدان الغربية، وهي ظاهرة لم تتوقف منذ أكثر من عشرين عاما أو تزيد، وحسب دراسة أجرتها جمعية "نادي المستقبل" في كندا، فإن قرابة 42 ألف جزائري هاجروا إلى كندا بين 2006 و2015، فيما بلغ عدد الأطباء الجزائريين في كندا 15 ألفا . أزيد من ربع أطباء فرنسا من الجزائر !! وفي ظل تضارب الأرقام بشأن عدد الأطباء الجزائريين الذين هجروا بلادهم خلال العقدين الماضيين، هناك اتفاق على تعرض قطاع الصحة بالجزائر إلى نزيف قاتل في كوادره بسبب الهجرة بحثا عن ظروف اجتماعية ومهنية وأكاديمية أفضل. وحسب تقرير صدر نهاية عام 2015 عن مجلس عمادة أطباء فرنسا، فإن عدد الأطباء الجزائريين الموجودين بفرنسا يمثلون نسبة 25% من مجموعة الكفاءات الطبية الأجنبية العاملة بهذا البلد، بتعداد قارب 5905 طبيبا في مختلف التخصصات، ناهيك عن أعداد الشبه الطبي، أي بعملية حسابية بسيطة أن أزيد من ربع أطباء فرنسا من الجزائر !!. وبين التقرير ذاته أن نحو 27.7% من هؤلاء تخرجوا في المعاهد الطبية الجزائرية، بينما حصل 71.7% منهم على شهاداتهم من الجامعات الفرنسية. بينما تقول مصادر جزائرية، على لسان المكلف بالعلاقات الخارجية في البرلمان الجزائري الاسبق جمال بوراس أن عدد أبناء الجالية الجزائرية من الأطباء العاملين في فرنسا بلغ 16 ألف طبيب في مختلف التخصصات. يصدق فينا المثل " خبز الدار يأكله البراني" أمام سياسة تصحر المؤسسات الاستشفائية الجزائرية وغثائية التسيير في الادارة، ينعم الغرب في الضفة الأخرى بكفاءات شبابنا، وبالتالي يصدق فينا المثل "" خبز الدار يأكله البراني" إذ تحصي نقابة العاملين في الصحة العمومية أكثر من عشرة آلاف طبيب في أوروبا، ونحو 2500 طبيب في أميركا الشمالية وبشكل خاص كندا، التي تستقطب الأطباء الجزائريين ضمن برنامج الهجرة الانتقائية واستقطاب الكفاءات. بالمقابل تستقطب دول خليجية أخرى مثل السعودية والإمارات وقطر والكويت أعدادا كبيرة من الأطباء الجزائريين، وبالمجمل تحصي النقابة نحو 15 ألف كادر طبي بين الأطباء والكوادر شبه الطبية في تلك المنطقة. من هؤلاء الاطباء والاطارات العليا في السلك الطبي الذين أكرهوا على مغاردة الجزائر، رحل هذا الاسبوع، و في صمت إعلامي جزائري مقلق، رحل البروفيسور الجزائري مسعود أوزيالة بباريس، إلى دار البقاء، كما رحلت قبله قامات علمية كثيرة و قد كتبت حينها عن خسارة الجزائر لهذه العقول الكبيرة و المعطاءة، أمثال الأستاذة المحجبة وريدة أبراهم نموذج الداعية الملتزمة المختصة في علم المكتبات بالجامعات الامريكية، وعنونت مقالي يومها: " الجامعة الامريكية تفتقد إحدى رائدات علم المكتبات المعاصر" ، وقبل رحيل هذه العالمة الأمازيغية المؤمنة، كتبت عن الطبيب الجراح، من الطراز الدولي النادر، البروفيسور الشريف بلحرش الذي إختطف من مقر عمله، بمستشفى قسنطينة فتخبط السلك الطبي برمته في قسنطينة ولازال يحن فريقه لعلمه و تقواه، لكن لا حياة لمن تنادي!! كما كتبت أيضا عن أستاذنا الكبير مصطفى بلعيد، من أولاد ميمون بولاية تلمسان، الأستاذ الوطني النموذجي الخلوق، الأمين العام لمعهد التجارة بجامعة الجزائر العاصمة، وغيرهم كثير، أكلتهم طاحونة الجهل والغدر، فذهبوا لربهم يشتكون رب العباد، ظلم العباد للبلاد ليقتص لهم بعدله يوم الميعاد. جحيمُ الفتنة والظلم والفساد، يجعل قامات علمية كبيرة تفر بجلودها لتحيا أو تموت بكرامة وها هو يلتحق بهم اليوم زميلهم البروفيسور الجزائري مسعود أوزيالة عن عمر شارف على الستين عاما، "قضى معظمها في طلب العلم، ومداوات الناس وتقديم الخدمة لهم، والعمل على تحقيق نهضة المجتمع الجزائري، وتأمين وجوده الثقافي والاجتماعي والحضاري، سيرا على خطى والده الشهيد ضمن الجيل العظيم الذي حرر المجتمع الجزائري من الوجود الاستعماري، وتاق إلى بناء دولة جزائرية ديمقراطية اجتماعية أو شعبية، ينعم فيها كل جزائري بالحرية والعدالة الاجتماعية والقانونية، والكرامة الإنسانية، وتكافئ الفرص في أداء الواجبات الوطنية"، كما ذكر ذلك بالمناسبة، بيان المجلس العلمي لمؤسسة السننية، وكما تناولت رحيله أيضا، العديد من مواقع التواصل الاجتماعي الاوروبية والغربية. وككل الوطنيين الرساليين الأصلاء، قالت عنه مؤسسة السننية أن" البروفيسور مسعود تفانى وأخلص في خدمة المجتمع، من خلال مهنته كجراح مختص في أمراض الكلى بمستشفى مصطفى باشا الجامعي بالعاصمة الجزائرية، حيث أجرى مآت العمليات الجراحية للجزائريين"، كما أجرى مآت العمليات الجراحية الأخرى في المستشفى الذي كان يعمل به في باريسبفرنسا، وفي عيادته الخاصة هناك بعد ذلك، على حد تعبير زميلة البروفيسور سليم بن خدة. كما قدَّم المرحوم خدمات جليلة لكل الجزائريين وأصحاب الحاجات الذين يقصدونه أو يستشيرونه كما ذكر ذلك لنا زميله الدكتور سعيد الهلالي المقيم في فرنسا، إذ نوه بقوله "بشهادة العام و الخاص، البروفيسور مسعود كان خدوما متواضعا حييا كريما شهما فحْلًا، مضحيا من أجل الصالح العام، قويا في دينه وأخلاقه، صلبا في نصرة الحق، ككل الجزائريين الأصلاء، أصحاب الكلمة والنيف والنجدة، ورفض الحقرة، والهيام بالحرية والعزة النفسية". وقد عرف الناس فيه هذه الصفات والخصال المتميزة، واختبروها في حياته، فأحبوه ووثقوا فيه، واختاروه عن غير رغبة منه في أول انتخابات بلدية ديمقراطية في الجزائر في مستهل تسعينات القرن الماضي ليكون رئيسا لبلدية عين طاية في العاصمة، ثم ممثلا برلمانيا بعد ذلك في الانتخابات البرلمانية الديمقراطية المجهضة سنة 1991، والتي انفتح على الجزائر والجزائريين بسبب إلغائها، جحيمُ الفتنة والظلم والفساد، الذي أتى على كثير من مقدرات المجتمع، وجعل قامات علمية وتربوية واجتماعية كبيرة وكثيرة مثل البروفيسور مسعود أوزيالة، يتعرض للمحنة وخطر التصفية الجسدية، ويتشرد في الصحراء، ثم في المنافي، حفاظا على النفس والكرامة، واستمرارا في خدمة الجزائريين والناس عامة في باريس، وفي نصرة القضايا العادلة في العالم. اضطر الدكتور إلى إنقاذ نفسه من طاحونة الموت، بالهجرة كغيره مكرها إن البروفيسور مسعود أوزيالة، كغيره من طاقات الجزائر الواعدة، ما كان له ليخرج من الجزائر أبدا، لولا أن حياته تعرضت للخطر، فهو كما نقول في اللهجة الأمازيغية ( سي اثْقِيار نَثْمورَثْ ) أو بالشاوية (سي إيزوران نَثْمورَثْ ) أي من جذور الأرض الجزائرية الأصيلة الصلبة والعميقة، فقد اختُطف سنة 1997 ولولا لطف الله به لكان في عداد آلاف المفقودين، فاضطر إلى إنقاذ نفسه من طاحونة الموت، بالهجرة إلى فرنسا، التي عرفت قدره ومقامه العلمي، واستفادت منه في مجال تخصصه العلمي الدقيق، وكان هو وفيا لأخلاقه وقيمه وأصالته وإنسانيته ورساليته، فلم ينكمش على نفسه، ولم يستأثر بالمتع التي أتيحت له هناك، بل واصل خدمة الجزائريين وغيرهم، وكان خير سفير شعبي للجزائر العميقة والجزائريين الأصلاء، في زمن المحنة وتشويه سمعة ومكانة هذا البلد العظيم وهذا "الشعب الفحل" على حد تعبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله. إنها خسارة كبرى، أو كما جاء في تأبينية المجلس العلمي لمؤسسة السننية للدراسات الحضارية، قوله "إن الإنسان لتعتصره الحسرة والألم والحزن، وهو يشهد آلاف القامات العلمية والتربوية والاجتماعية الجزائرية المبعثرة، بل والمشرَّدة أحيانا، في القارات الخمس، من أمثال البروفيسور مسعود أوزيالة، دون أن تستفيد منها الجزائر الاستفادة المطلوبة، بل ومنها من يُحاصَرُ ويشوَّهُ ويجرَّد من حقوقه! بسبب آرائه ومواقفه الفكرية أو السياسية، ولو أن هذه الطاقات والقامات الكبيرة والكثيرة جدا، عُرفت أقدارُها ومقاماتها، ووُضِعت في أماكنها الصحيحة في خريطة إدارة الدولة والمجتمع، لكانت الجزائر غير الجزائر، ولكان الجزائريون غير الجزائريين؛ من حيث القيمة والمكانة والدور والتأثير في محيطهم الإقليمي والعالمي". ربع قرن من التشرد في المنافي، دون أن يؤثر ذلك سلبا على أصالته ورساليته ووطنيته إن رحيل البروفيسور مسعود أوزيالة من ديار الغربة إلى دار البقاء، بعد ما يزيد عن ربع قرن من التشرد في الفيافي والمنافي الداخلية والخارجية، دون أن يؤثر ذلك سلبا على أصالته ورساليته ووطنيته، يعطي للنخبة الوطنية في ديار الغربة وفي البلد، درسا كبيرا جدا في الوطنية السامية والرسالية الغالية، وهو الارتفاع إلى مستوى المصالح العليا للمجتمع، وعدم ربطها بالمصالح التافهة والآنية الضيقة للأشخاص والفئات والجماعات السياسية والاجتماعية المتهالكة على المغانم المسمومة. فالمصالح العليا للمجتمع الجزائري ممثلة في تحقيق أمنه الثقافي والاجتماعي والحضاري الاستراتيجي الحقيقي، هي المصالح الحقيقية العليا التي يجب علينا وضعها في حسباننا باستمرار، وجعلها فيصلا وميزانا في العلاقة بالأفكار والأشخاص والفئات والمؤسسات والأنظمة. والبروفيسور مسعود أوزيالة، مهما اختلف بعض الناس معه في بعض المواقف، فإنه يقدم لنا نموذجا حيا في هذا المجال، حيث نعتقد بأنه دار مع المصالح العليا للمجتمع الجزائري حيث دارت قدر ما استطاع، وثبت على ذلك حتى لقي ربه، نظيفا مرفوع الهامة. وبهذه المناسبة الأليمة، فإن الجالية الاسلامية في أوروبا وأمريكا، تتقدم لأسرته خاصة، وللنخبة الجزائرية في ديار الغربة وفي البلد عامة، وللمجتمع الجزائري بصفة أعم، بأحر التعازي والمواساة، في فقدان هذا الرجل الرسالي الثابت، داعية الله تعالى أن يتغمده برحمته الواسعة، وأن يلهم الجزائريين والجزائريات السداد والرشاد، وأن يجمعهم على كلمة سواء هي في خدمة بلدهم، والحفاظ على مصالحه الحقيقية العليا، المنفكة عن المصالح الضيقة للأشخاص والجماعات الفئوية، و صدق محي الموتى القائل في محكم تنزيله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } و{ إنا لله وإنا إليه راجعون}.