كثيرا ما يجول في خاطرنا عندما نتكلم عن أفريقيا مشاهد الفقر المدقع والمجاعة الطاغية والأوبئة المميتة كما الحروب التي تفتك بالمجتمع الواحد. وكأن لا حظ لهذه الأرض إلا أن تكون أرض بلوى ومصائب. رغم أنها تعد من أغنى القارات من ناحية الموارد الطبيعية واللغات والأجناس والديانات والأعراف. إلا أنها وللأسف بسبب هذه الغنى التي توفرت عليها هذه القارة السمراء كانت تعاني من عيون حاسدة وأطماع الطامعين وشراهة الجائعين. فلم تسلم من حروب من حروب فتكت بمجتمعاتها ونهبت ثرواتها. وأنا في هذه المقالة لست لأسلط الضوء على التاريخ المرير لهذه القارة، ولكن لأبرز محاسنها رغم ما مرت من مصائب وأوجاع مركزا على بلد إقامتي بنين. نعم بضع من الصور النمطية التي تجول في خواطرنا لا زالت قائمة في بنين إلى يومنا هذا. حيث أن بنين تتمركز في أواخر الترتيب التنموي العالمي، وتلحظ أن المجتمع يعاني من ويلات الفقر الاقتصادي وعدم توفر الدخل الكافي لفرد من أفراد المجتمع. ولذلك ترى أن المواطن البنيني كثيرا ما يتقاتل يوميا في وظيفة أو أكثر لمدة قد تصل لأزيد من 12 ساعة يوميا من أجل توفير العيش الكريم له ولأسرته. وقد عايشت هذه الظاهرة خلال أيام تدريبي وعملي، ولا تزال أكثر اللحظات صعبة علي هي عندما ألتقي بأطفال وشباب ورجال يطلبون مني شخصيا أموالا من أن أجل أن يشدوا رمق جوعهم. أو عندما يزيد أصحاب التاكسي الأجرة من أجل توفير الغذاء والعشاء له ولأسرته.وأكثرها مرارة لي عندما أجد أطفالا بكل براءتهم وفي زهور أعمارهم يطلبون مني لو أمكنني مساعدتهم ولو بأبسط الإمكانيات. حينها تجدني أقول كما قال الإمام علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- حينما قال لو كان الفقر رجلا لقتلته. ولكن، هل صح القول بأن هؤلاء الناس تعساء لا مجال لسعاتهم إلا عبر تحسين ظروف معيشتهم؟ وهل أمكن القول بأنه بسبب هذه الويلات التي يعايشها هذا المجتمع فلا سبيل لهم مطلقا إلى العيش بطمأنينة وسكينة؟ ولكن رغم كل هذه الصعوبات، تجدني أندهش من مظاهر الفرح والبهجة اللتان تكسوان على وجوه أفراد المجتمع. فكثيرا ما تجد السكان يغنون ويرقصون في جل أنواع أشغالهم من بناء المنازل إلى تدريس الطلاب إلى اجتماع مسؤولي الدولة. وكذلك تلحظ نفس الأمر في كل أحوالهم، حيث ترى جل مباهج الفرح تتمثل في مناسباتهم الثقافية (كالعيد الوطني) والديني (كالفودو). بل يتعدى الأمر إلى أنهم يظهرون مناظر الفرح حتى في جنازاتهم، وقد حضرت هذه المراسيم في يوم من الأيام في قريتي. حيث تفاجأت من خروج النساء بالزينة وأبهى وحللهم، رغم أنهم في الأيام العادية لا يكدن يغطين عورات أجسادهم! وفي هذا اليوم اعتقدت بأنهن ذاهبن إلى حفل الزفاف، إلا أنني تفاجأت بحضورهن الجنازة. أما عن مراسيم الجنازة، فحدث ولا حرج، حيث تراهم يرقصون ويغنون ويأكلون ما لذ وطاب من أطعمتهم. وعندما تسألهم عن سبب هذا الفرح ترى بأن نظرتهم للموت تختلف تماما عن نظرتنا، حيث تجدهم يقولون بأنهم يحتفلون بإنجازات هذا الشخص وما قدمه من خير إلى أناسه وانتقاله إلى عالم أفضل من هذه الدنيا. وفي مباهج الفرح مثال رأيته بعيني كذلك، حيث في يوم من الأيام استدعيت إلى حفل تخرج متدربات الخياطة. وقد تفاجأت بأنه رغم كثرة الحاضرين وبساطة الحفل (حيث أنه كان في استاد كروي مفتوح) والحر، إلا أن كلا المنظمين والحاضرين كانوا يستمتعون بالحفل. وقد كانت هذه المظاهر تتلخص ببساطة في غناء ورقص شعبيون، فلم يضطر المنظمون إلى شراء أغلى أنواع الأطعمة ولا كراء أغلى المطربين ولا إبراز كل مظاهر التلف. إذا نستنتج أنه في كلا مظاهر الحزن والفرح، ينجح المجتمع في خلق السعادة من اللا شيء أو بأقل الموارد. وكأنهم يعيدون تعريف السعادة بالقول بأنها الرضا والفرح بكل ما لديهم من مباهج الحياة. كما أنها لا ترتبط بالسعي وراء ما لا نملك، بل بالاستمتاع بما نملك. وأخيرا، أريد أن أسلط الضوء على الرضا الذي يتمتع به سكان هذا البلد السعيد من خلال زيارتي لقرية لا تبعد عني بأكثر من ساعة. وأكثر ما أدهشني هي المعيشة المتواضعة التي يعيشها سكانها، حيث أن جل سكان القرية لا زالون يعيشون في بيوت من طين! وهذه البيوت عموما عبارة فقط عن غرفتين أو ثلاث لا تكاد تأوي أسرة من ثلاث أو أربع أفراد. كما أنه عند زيارتك لهذه القرية لا تكاد ترى أية متاجر من أجل اقتناء أساسيات المنزل والمعيشة، بل تجد هذه "الأسواق" عبارة عن نساء تبيع في جنبات الطريق تحت حرارة شمس تتعدى في كثير من الأحيان ال35 درجة مئوية! كما أنه تخلو هذه القرية من كل وسائل الترفيه والاستجمام، حيث ترى أنها عبارة في الأغلب عن منازل ودور للعبادة ومدارس وحقول للزراعة. ورغم بساطة أساسيات الحياة، اندهشت من الضيافة والكرم المبالغين اللذين تلحظهما على طباع أهل القرية. حيث عند مقدمي، اندهشت من الترحاب المستمر والابتسامة التي تبرز على وجوهم كما رغبتهم الملحة في معرفتي وضيافتي. بالإضافة إلى ذلك، تعجبت أشد العجب من السعادة والرضا اللتان تبرزان على كل أهل القرية. حيث تبرزان خلال رؤيتي لأطفال يستمتعون بلعب كرة القدم كما لنساء طاعنات في سن يتكلمن ويستمتعن بمرافقة أهلهن وصديقاتهن. وأخيرا، حيوية واستمتاع الميكانيكي بعمله في إصلاح وسائل التنقل رغم ما يمثله هذا العمل من مشقة وتعب! إذا، يمكنني ختم هذا المقال بالقول بأنه رغم ما يمر به هذا البلد من ظروف اقتصادية صعبة، ولكنني استمتعت حق الاستمتاع بالسعادة والرضا وراحة البال بأية وسائل قلت أو كثرت. فهل يا ترى نستفيق على ما أنعمه الله علينا فنقتنع ونشكر ونستمتع بها قبل ما تأخذنا المنية فنندم على تقصيرنا في شكرها؟