دورتموند يهزم مونتيري بالموندياليتو    محسن متولي يُجدد عقده مع اتحاد طنجة لموسم إضافي    أطفال يفترشون الأرض أمام المركز الوطني للتخييم بالغابة الدبلوماسية.. مشاهد صادمة تستدعي تدخلاً عاجلاً!    سكان كتامة وإساكن يعيشون في ظلام دامس منذ أسبوعين.. والأجهزة معطلة بسبب انقطاع الكهرباء    31 قتيلا و2862 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    خمس سنوات حبسا نافذا في حق محمد بودريقة بتهم تتعلق بالنصب والتزوير    ملتقى فني وثقافي في مرتيل يستكشف أفق البحر كفضاء للإبداع والتفكير    إيلون ماسك يتوعد بتأسيس حزب جديد في أمريكا وترامب يهدد بقطع الدعم الفيدرالي    كاريكاتير في مجلة "LeMan" في تركيا يشعل حالة غضب ويؤدي إلى اعتقالات واسعة    عدد المستفيدين من برنامج دعم السكن بلغ 54 ألف شخص ضمنهم 3 آلاف في العالم القروي    مليون شاب دون تكوين أو تمدرس أو شغل... السكوري: أعداد "NEET" تشهد تراكما مقلقا    كأس أمم إفريقيا للسيدات (المغرب-2024): لاعبات المنتخب الوطني "متحمسات لانطلاق المنافسات" (خورخي فيلدا)    حكيم زياش مهدد بالسجن وحجز الممتلكات.. اكتشف السبب    الصويرة.. إحباط محاولة تهريب ثلاثة أطنان و30 كيلوغراما من مخدر الشيرا وتوقيف ثلاثة أشخاص    عاجل.. المحكمة تدين محمد بودريقة ب5 سنوات حبسا نافذا    ساكنة حي اشماعو بسلا تستنجد بالسلطات بسبب سيارة مهجورة    انطلاقة قوية للمناظرة الوطنية الأولى حول الذكاء الاصطناعي تُبرز طموح المغرب للريادة الرقمية (صور)    مهرجان موازين يستقطب أكثر من 3,75 مليون متفرج ويحتفي بأزيد من 100 فنان عالمي    حزب الاستقلال يكتسح الانتخابات الجزئية بإقليم الحسيمة    غبار كثيف يرافق هبوط طائرة بوينغ 747 بمطار الحسيمة ومصدر يوضح    نشطاء حقوقيون ينتفضون ضد "تعديلات تقييدية" على المسطرة الجنائية    الريال يتخطى اليوفي بمونديال الأندية    الحكومة تفلت من الإسقاط في فرنسا    المغرب يُعزز موقعه كشريك موثوق في مكافحة الاستغلال الجنسي داخل عمليات الأمم المتحدة    ميتا تعلن إحداث مختبر للذكاء الفائق    جلالة الملك يهنئ رئيس جمهورية الصومال الفيدرالية بمناسبة العيد الوطني لبلاده    المنظمة العالمية للأرصاد الجوية .. على الجميع التأقلم مع موجات الحر    تأكيد الحكم بالسجن خمس سنوات بحق الكاتب الجزائري بوعلام صنصال    عبد اللطيف حموشي يستقبل رئيس جهاز الاستخبارات الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    المغرب والسعودية عازمان على توطيد التعاون الاقتصادي    السغروشني: الذكاء الاصطناعي لم يعد خيارا تقنيا بل ضرورة سيادية للمغرب    شيرين عبد الوهاب تتعثر فوق مسرح "موازين" وغادة عبد الرازق تصفق للظلّ    الكشف عن الأغنية الرسمية لكأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025    تقارير تفتيش تكشف تلاعبات مالية في شراكات "وهمية" بين جماعات ترابية وجمعيات يترأسها أقارب وزوجات المنتخبين    شيرين تهدد باللجوء الى القضاء بعد جدل موازين    عاجل.. بودريقة يشبّه محاكمته بقصة يوسف والمحكمة تحجز الملف للمداولة والنطق بالحكم    غوارديولا: بونو وراء إقصاء "السيتي"    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    بعد انخفاضات محتشمة... أسعار المحروقات تعود للارتفاع من جديد بالمغرب    "أونروا": 500 قتيل و4000 جريح أثناء محاولتهم الحصول على الطعام بغزة    الهلال السعودي يواصل الحلم بقيادة ياسين بونو.. مباراة ملحمية وبصمة مغربية حاسمة    أكادير تحتضن أول مركز حضاري لإيواء الكلاب والقطط الضالة: المغرب يجسّد التزامه بالرفق بالحيوان    العصبة تحدد موعد فترة الانتقالات الصيفية وتاريخ إجراء قرعة البطولة الاحترافية    فتح بحث قضائي في ملابسات تورط أحد أفراد القوات المساعدة في قضية تحرش وابتزاز مادي    آسفي... كأس الفرح وصرخة المدينة المنسية    وقت الظهيرة في الصيف ليس للعب .. نصائح لحماية الأطفال    حرارة الصيف قد تُفسد الأدوية وتحوّلها إلى خطر صامت على الصحة    إصلاح نظام الصرف يندرج في إطار الإصلاحات الهيكلية الهادفة إلى تعزيز مرونة الاقتصاد الوطني    إبداع بروكسل يفك الحصار عن غزة    الصويرة تحتضن مؤتمر المدن الإبداعية 2026    أكثر من 900 قتيل في إيران خلال الحرب مع إسرائيل    الخطوط الملكية المغربية توسع شبكتها الدولية بإطلاق أربع وجهات جديدة    الصحة العالمية تحذر: الهواتف ووسائل التواصل تعزز مشاعر الوحدة        ضجة الاستدلال على الاستبدال    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في رواية «رجل متعدد الوجوه» لإبراهيم الحجري 2/2 .. تشظي الذات وتفسخ القيم

إن قراءة الرواية تنم عن حرص الروائي على تجاوز مستوى التصوير الفوتوغرافي للواقع إلى مستوى أبعد هو الحفر، فنيا وإبداعيا، في طبقات هذا المجتمع، لإبراز الكثير من التناقضات، ومن تم اتخاذ موقف من الوقائع والأحداث. وإذا كان من الصعب إثارة كل القضايا التي عالجتها الرواية، فإنه مع ذلك يمكن أن نركز على قضية تشكل بؤرة الرواية، إنها قضية تفسخ القيم في مجتمع لم تعد غالبية أفراده تقيم أي اعتبار للجوانب القيمية.
ولعل هاته القضية تعكس مختلق التحولات التي شهدها المجتمع المغربي وهو يؤسس لفعل الانتقال إلى مرحلة «الحداثة» والرهان على الديمقراطية كأسلوب في التداول على السلطة. ومن مظاهر التفسخ القيمي كما تجسده الرواية:
التهافت على السلطة والثروة: تعتبر شخصية «الرايس» نموذجا للإنسان المريض بالسلطة والثروة. وإذا كان سعي الإنسان إلى السلطة والثروة أمرا مشروعا، فإن هذا السعي يجب إن يتم وفق طرق مشروعة؛ طرق تستند إلى المعايير الأخلاقية، والأعراف الاجتماعية، والقواعد القانونية..، إنها ترسانة من القيم التي تضمن التعايش المشترك بين الأفراد داخل المجتمع. وقد وفق الروائي من خلال شخصية الرايس في تصوير انغماس الكثير من أفراد هذا المجتمع، لاسيما أولئك المنخرطين في اللعبة السياسية وفي إدارة شؤون البلاد والعباد، في سلوكيات مرضية تعكس الخرق السافر لكل ما يمت للقيم بصلة.
ومن خلال مسار الرايس نستطيع فهم الكثير من الأساليب التي يلجأ إليها السياسيون والمتسلطون في هذا البلد الطيب من أجل تحقيق تسلق طبقي يتم على حساب معاناة الآخرين، يقول السارد على لسان الرايس مصورا شعار هذه الفئة من مصاصي دماء المستضعفين: «وطدت نفسي على أن يكون الريال هو المبدأ والمنتهى» ص. 15، بهذا المعنى استطاع الروائي تصوير جانب من مظاهر الانتهازية والوصولية التي غدت خاصية ملازمة لسبل العيش لدى الكثير من أفراد المجتمع.
الهوس بالجنس: تعد الممارسة الجنسية سلوكا غريزيا يضمن البقاء والاستمرار للنوع البشري بل ولمختلف الكائنات الحية. غير أن ممارسة الإنسان للجنس خارج طقوس العقل والأعراف والقيم تجعل منه سلوكا مقيتا يهبط بالإنسان إلى مرتبة أدنى من الحيوانية. صحيح أن الإنسان يمارس هذا السلوك استجابة لغريزة طبيعية، لكنه يسمو بهذه الغريزة ليتميز عن باقي الكائنات، وذلك حين يخضعها لمواضعات وقوانين تضمن التناسل، وتشيع قيم الحب، وتنظم العلائق والروابط الاجتماعية.
والمتتبع للعديد من الروايات العربية والعالمية سيلاحظ أنها اهتمت بموضوعة الجنس، وعالجتها من زوايا متعددة. وقد حرص المبدع ابراهيم الحجري بدوره على إثارة هذه القضية، محاولا تعرية مختلف الانحرافات المرتبطة بممارستها. إن الاهتمام بالجنس جانب تناوله الحجري في عدة أعمال أهمها روايته « العفاريت». لكنه يواصل نقد تلك الانحرافات من خلال هذه الرواية التي نسجت مقاطع حكائية وفقت في تشخيص تلك الانحرافات التي يمكن إبرازها من خلال الجوانب الآتية:
الخيانة الزوجية: إذا كان الرايس قد تفنن في تحقيق السلطة ومراكمة الثروة، ففي المقابل لم ينس نصيبه من معاركة الكثير من الفروج، يقول: كنت « أتحين فرصة قدوم فتيات من المدينة ..فأغرر بهن وأقطف منهن بعض النزوات»ص.20، كما أنه لم يقم أي اعتبار لروابط الأسرة والقرابة فاغتصب بنات القرية؛ فمديحة ابنة القبيلة «حملت نتيجة.. عملية اغتصاب وتغرير من طرف السيد الرايس هذا»ص.61
إن السيد الرايس هذا متزوج من سيدة ذات حسن وجمال، لها جسد أسطوري، ومع ذلك فهو غافل عنه بأجساد أخرى، ولا يقتصر الرايس على سبر أغوار فروج داخل الموطن، بل يقتنص لذات من إلهة فرعونية بباريس، إنها زليخا المصرية التي تمدح قدراته الجنسية فتقول:» أنت فحل حقيقي.. لا أحد غيركم أيها المغاربة يستطيع الفتك بأنوثتي»ص. 46.
ولزوجة الرايس نصيب من الرغبات المحمومة، فهي لا تتوانى عن إشباع رغباتها بمضاجعة السائق والحارس الليلي. فجسدها «عفريت لم يستطع ثلاثة رجال أن يطفئوا سعير دواخله المحمومة»ص.84
استجابة الأبناء لنزوات الجسد: تصور الرواية علاقة الكثير من شباب المجتمع، خاصة أبناء الطبقة الميسورة بالجسد. فهذه الشريحة، وبفعل التحولات التي شهدها المجتمع بتأثير من الثقافة الغربية، منغمسة في إشباع طاقاتها الجنسية بأساليب غاية في التحرر، وبعيدا عن أي رقابة أسرية، أو قيود اجتماعية.
تحضر في الرواية شابة اسمها «ماريا» لتجسد هذا الهوس بالمتعة الجنسية؛ فماريا ابنة الرايس «لها التزاماتها مع أصدقائها الوسيمين الذين يسقون أنوثتها كل يوم» ص.15، وهي ماهرة في اقتناص اللذات، إذ تروي ظمأها وتمتع الشبان من حولها، يقول شاب من أترابها مثنيا على حلاوتها : «أنت لا تعرفين يا ماريا كم أنت لذيذة الطعم»ص.34
أما عبدالغفور، أخ ماريا، فيزكي اختياراتها في معانقة اللذة الجنسية والخمرية، فهو كما وصفه السارد «يطارد رائحة الجسد بين مراقص البيضاء وشوارعها»ص.18
ويبدو من خلال سلوك الأبناء لنفس السبل التي سلكها والدهما أن الروائي يحاول التنبيه إلى مسألة إعادة الإنتاج التي تحكم القيم و العلائق الاجتماعية، وبعبارة أخرى، فسلوكات الأبناء هي نتيجة طبيعية لغياب التنشئة الأسرية التي تزرع قيم الفضيلة والأسرة ..يقول الروائي مدينا التفسخ القيمي : « كيف يمكنهما)أي الأبناء(أن يحاسبا على أشياء لم يعيشاها سوى في الوهم والأفلام؟ ألم يكن ولد العزاوي نفسه مخلا بقيم كهذه، غير مكترث بأسوار مؤسسة الأسرة .. ناقما على مفهوم الالتزام بشتى تجلياته .. ألم تعلمهما الأم الحرون لوعة التمرد على فلسفة النقاء حينما كانت تضع، بوداعة، شرف أبيهما بين أيدي الحارس أو السائق؟ «.
هذه إذن عينة من الأسئلة او القضايا الرئيسة التي حاولت الرواية إثارتها. وبهذا الاختيار نستطيع اعتبارها رواية واقع بامتياز؛ واقع شخصياته ممسوخة بفعل تعدد أقنعتها وسلوكياتها التي تعكس تفسخ القيم واستيلاب الأفراد. والرواية بهذا الاختيار أيضا تنضاف إلى غيرها من الروايات التي تميزت بالجرأة في الحديث عن الاختلال القيمي الذي ميز المجتمع المغربي/ العربي في سياق التبرجز المعاق. ولعل ما يميز هذه الرواية أيضا أنها نافذة للإطلالة على عالم المقهورين، وما أحوجنا في هذا الزمن إلى سرد يكتبه المقهورون .
لقد أفلح الروائي ابراهيم الحجري في إنتاج نص إبداعي متجذر في السياق الاجتماعي، نص لا يستنسخ الواقع بشكل فج، بل إنه نص يعبر عن موقعه وموقع لحظته الإدراكية في الذات والمجتمع، بهذا التوجه يسهم الروائي في تشكيل إدراكنا لتاريخنا ووعينا بموقعنا، وبهذا الاختيار أيضا يتأكد أن الرواية لها وظيفة اجتماعية، فهي تأخذ من الواقع، تدخل في ذلك السر الأعظم، سر تفكيك العالم الواقعي، وإعادة بنائه، في صنع جميل.
بنية الخطاب الروائي وجمالية التعبير:
من السمات المميزة للبناء المعماري في هذه الرواية خلوه من العناوين. فهي كما ألمحنا أنفا حكاية واحدة بلوحات أو مشاهد مترابطة. تنطلق الرواية من الإعلان عن بداية الانحدار نحو الموت، موت الرايس الذي « تتوارى ملامح البشر فيه خلف سحنات مفزعة»ص.7، وتنتهي بالموت، موت الرايس. وإذا كان الموت هو النهاية الطبيعية لكل كائن حي، فإن الروائي ركز على التصوير الفجائعي لنهاية الرايس، ليذكرنا بالنهايات التراجيدية لكل المتسلطين على البلاد والعباد. ورغم ما يبدو من انسجام ظاهري بين بداية الرواية والنهاية، فإن المفارقة واضحة من خلال تحول الرايس إلى بطل/ولي يخلد أهل القرية اسمه عبر طقوس موسم الرايس السبع.
إنها نهاية تعكس استكانة المواطن وضعف مبادراته لتحقيق التغيير نحو الأفضل. هي نهاية شبيهة في تقديري بنهاية «أولاد حارتنا» التي ختم الراحل نجيب محفوظ مختلف فصولها بتلك العبارة : لكن آفة حارتنا النسيان». قرية الرايس إذن لم تأخذ العبر من جرائم الرايس، بل كرست تقليدا يمعن في تكريم الجلادين وإعادة إنتاجهم عبر أنساق اجتماعية وثقافية متجذرة في الواقع. إنه تقليد يكرس الولاء الذي «يقوم على معادلة التبعية.. فليس هناك حوار وتبادلية، بل فوقية من جانب السلطة وامتثال من جانب الأتباع») 3 (.
أما بخصوص التقنية السردية فقد تنوعت الأصوات داخل الرواية، فهناك شخصيات تتناوب على السرد، فالسارد لا يكتفي بنقل الأحداث، بل يفسح المجال بين الفينة والأخرى للشخصيات لتسرد وتبوح وتكشف. إن القارئ للرواية يجد نفسه موزعا بين عدة أصوات، فبالإضافة إلى صوت السارد، هناك صوت الرايس الذي يمتطي صهوة المونولوج ليحاول كسب تعاطف القارئ عبر تقديم أحداث تبرر مسلكيات الرايس وعلاقاته مع نفسه وأسرته والآخرين من حوله.
وتحضر كذلك أصوات أهل القرية الذين تعاطف معهم السارد كثيرا ففسح المجال للكثير من الشخصيات المجسدة لهم لتصور معاناتها وأحلامها المجهضة بفعل واقع مأزوم بظواهر التسلط والفردانية .
الرواية إذن نسيج من الأصوات المتنوعة والمتعددة. أصوات شخصيات تحكي وتتكلم وأحيانا تتحاور. أصوات رغم اختلاف نغماتها فهي تشترك في عزف مقطوعة واحدة منسجمة.مقطوعة قوامها الإحساس بالقهر والعجز عن مواجهة كل أشكال التسلط والاستبداد.
وإلى جانب السرد والحوار يحضر الوصف في هذه الرواية. فالكاتب يستثمر هذه التقنية لتصوير جوانب متعددة. فهو يصف الفضاءات: بيت الرايس، خيمة النساء..، والشخصيات: الرايس، الأبناء، أهل القرية..، الطقوس والعادات: إعداد الشاي، الزيارة، الجنازة...
لقد وفق الكاتب في استثمار الوصف للإيهام بواقعية الأحداث، والكشف عن جوانية الشخصيات، وتصوير الكثير من الظواهر الاجتماعية و كشف الممارسات الاجتماعية الخفية والمتجذرة في الحياة اليومية للكثير من أفراد المجتمع المغربي. ) الخيانة الزوجية، زيارات التملق والنفاق الاجتماعي، طقوس الخضوع..(. وبواسطة الوصف أيضا تمكن الكاتب من إبراز العام والمشترك في حلة جديدة أضفت عليه طابعا سحريا وجعلت بعض المشاهد أقرب إلى جنس الأدب العجائبي: مشهد الختان، مشهد الجنازة..
ويبدو أن رواية الحجري تحتفي بحضور أجناس تعبيرية عدة مكرسة بذلك خاصية التهجين التي تتميز بها الرواية عموما عن بقية الأجناس الأدبية. إن هذه الخاصية جعلت من نص الرواية ملتقى لخطابات عديدة. فمن نماذج التناص في الرواية، الغناء الشعبي ص.ص29 51 ، والنسق اللغوي المغربي الدارج ص.30 3238، والأمثال الشعبية ص 38 39، والخطاب الديني/القرآني ص 91...
أما بنية اللغة فهي محملة بالعديد من الملفوظات التي تجعل منها مرآة تعكس ما يمور في الواقع من تعدد لغوي وخطابي. فهناك سجلات لغوية متعددة، إذ تحضر ملفوظات دينية/ القرآن وشعرية/ باريس يا ساحرة العقول جئتك جريحا.. فهلا تجودين يا سيدة السين، وأجنبية/ ملفوظات بالفرنسية.
ومجمل القول فقد سعت الرواية إلى استثمار الصورة السردية الموسعة، تلك الصورة التي تتجسد داخل هذا النص الروائي في صيغ أسلوبية بوليفونية متعددة الأصوات تمتح إجراءاتها التطبيقية من طروحات ميخائيل باختين. ولعل في هذا السعي طموح إلى إبراز درجة اهتزاز القيم وتشظي الذوات والتناقضات، مما يعكس علاقات الشك والارتياب.
وإذا كانت السمة النوعية لرواية الحجري هي الواقعية، فهي واقعية أفضت « إلى تنويعات متعددة وإلى إمكانات للتجديد بدون التنصل من إقامة علائق مع الواقع تكشفها الصياغة النصية»)4( . وعناصر الصياغة النصية في هذه الرواية جعلتها متشابكة مع الواقع عبر قضايا وأحداث نسجت في أمكنة عدة.
والملاحظ أن أحداث الرواية تدور في فضاءين محوريين تفنن الروائي في تشخيصهما وهما :
فضاء المدينة: تمثله من جهة مدينة الدار البيضاء؛ مدينة تحضر في الرواية لتجسد نماذج من المدن العربية الي أصابتها مظاهر التحديث الغربي. كما أنها تشكل فضاء يبتلع غالبية سكان البوادي الحالمين بالهروب من أقبية الفقر وتحقيق طموحاتهم في الجاه والثروة. غير أن هذا الفضاء يغدو مسرحا لإجهاض أحلام هؤلاء المقهورين، وتجريدهم من كل قيمة إنسانية أصيلة، ليعتنقوا قيم الاستغلال والتسلط والفردانية.
ويمثل فضاء المدينة من جهة ثانية باريس حاضرة الأنوار ورمز الحب والثقافة والجمال. وباريس في هذه الرواية مدينة يشد إليها البطل/ الرايس الرحال لهدفين : ففي العديد من المرات يقصدها باعتباره متبرجزا ليستمتع بمباهجها، وليحقق فتوحاته الجنسية مع العاهرات. هي أيضا محج الرايس في أواخر حياته طامحا في ذلك إلى العلاج من المرض العضال الذي ألم به/السرطان.
إن علاقة الرايس بباريس فيها نوع من التشخيص لعلاقة المجتمعات المتخلفة بالغرب، باريس في هذا النسيج الروائي قد تكون رمزا للآخر/ الغرب/ المتقدم. لكن هذا الغرب/ الفضاء ليس مفتوحا أمام الجميع، فباريس مقصورة على الفئات التي تملك الجاه والثروة. هي فضاء يرمز لقيم الحداثة لدى الغربيين، لكنها بالنسبة للمتسلطين على شعوب البلدان المتخلفة ليست سوى مرتع للاستمتاع بملذات الحياة.
فضاء القرية: هي اصل جل شخصيات الرواية، فهي مسقط رأس الرايس الذي تنكر لها ولأهلها. وهي أيضا مسرح تعيش فيه العديد من الكائنات المقهورة نفسيا واجتماعيا وثقافيا. كائنات ترزح تحت وطأة الفقر المدقع، ويمارس عليها الاستغلال بمختلف الأشكال.. فهي كائنات مستلبة تكرس وضعا بئيسا من خلال خضوعها وعدم مبادرتها إلى التمرد والثورة على الوضع القائم.
خلاصة القول فقد تمكن ابراهيم الحجري عبر هذه الرواية من إثارة جملة من الإشكالات التي تعد جزءا من واقع المجتمع المغربي وربما العربي. قضايا تنتظم حول إشكالية التحول القيمي التي ميزت هذه المجتمعات في سياق جهودها الرامية إلى القطع مع مرحلة التقليد ومعانقة آفاق الحداثة.
وقد كشف النسيج الروائي عن طرح قوي لدى المؤلف، طرح يروم نقد الواقع المجتمعي المتفسخ قيميا، كما يتغيا تغيير هذا الواقع، وتمثل المستقبل في نوع من الحلم الاجتماعي، حلم بسيادة قيم المساواة، والتعايش المشترك والتمرد ضد كل أشكال القهر.ولتحقيق هذا المنجز عمل المبدع على استثمار عدة تقنيات سردية ضمنت للنص كفاية جمالية جعلت منه توليفة حكائية مفيدة للقارئ وممتعة له في الآن ذاته.
* الهوامش :
1 العفاريت ، صابون تازة دا رواية للنشر، القاهرة 2011، العفاريت دار النايا 2013، فصوص الهوى دار النايا 2014
2 Gérard Genette. Seuils.p.15
3 الإنسان المهدور، مصطفى حجازي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، ط.1، ص. 57
4 فضاءات روائية، محمد برادة، منشورات وزارة الثقافة، المغرب، ط1، 2005، ص.34


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.