بغير قليل من الذهول، نتابع كيف إستسلم كثيرون، بمناسبة تأخر عمل البرلمان، لعاطفة جياشة مفاجئة إتجاه المال العام، وكيف أن الذين لم يسبق أن سمع لهم صوت في قضايا الفساد ، وفي زواج السلطة بالمال وإرتباط الاقتصاد بالسياسة، وفي الملفات الصارخة لتضارب المصالح الكبرى ، قد أصبحوا يذرفون دموع غزيرة على غياب البرلمان ، وهم في ذلك لايلتفتون إلى أثر هذا الغياب على اشتغال المؤسسات أو على منظومة الوساطة السياسية ، بل يركزون بهوس غريب على الكلفة المالية لهذا الغياب. وعندما يفعلون ذلك ، يدفعون بمنطقهم الى مداه الاقصى ، ليصلوا في نهاية التحليل الى خلاصتهم السعيدة : بأن لا حاجة لنا في النهاية بهذا البرلمان، حيث غيابه أو حضوره لا يغير في الواقع أي شيء ، اللهم ما كان من كتلة الأجور المحولة بإسمه! التركيز على "الغياب" يستحضر في مضمرات الخطاب ، الإشادة بالحضور الوازن لمؤسسة أخرى ، ليست سوى المؤسسة الملكية ، في استدعاء جديد لتقابلات قديمة قائمة على التبسيط والاختزال والقفز على الإختلاف الواضح في الشرعيات والصلاحيات ، تريد أن تصور لنا مغربا سياسيا بسرعتين ، وهي مقارنات تستند إلى حقيقة الفعالية الإستراتيجية للمؤسسة الملكية ، في الداخل وفي الخارج ،لكنها تريد أن تبخس جهد باقي المؤسسات، و تحولها،بكاريكاتورية ظالمة ، إلى مجرد عبء ثقيل على مسار التقدم . تنطلق "الأغنية" الجديدة ، من أن أم المشاكل المطروحة على بلادنا ، تتجلى في عطالة البرلمان ، و ما يستتبع ذلك من هدر للمال العام. لا يلتفت هذا الإدعاء إلى واقع الأشياء ، حيث رئاسة مجلس النواب هي تعبير واضح عن الاغلبية السياسية، وحيث إشتغال البرلمان مرتبط بفرز أغلبية سياسية يهيكل حولها مؤسساته (حيث الدستور يفترض تنظيم أجهزة ولجان البرلمان وفق معادلة الأغلبية /المعارضة ،من ذلك أنه يخصص مثلا رئاسة لجنة العدل والتشريع لإحدى غرف المعارضة ،كما أن النظام الداخلي لمجلس النواب يلزم الفرق بتصريح يوضح إنتمائهم المعارضة أو للأغلبية ). وحيث زمن التفاوض هو زمن طبيعي في الديمقراطية ، فالزمن الديمقراطى المبني على فكرة التناوب ،ومنطق العودة إلى الإرادة الشعبية ،يحمل بالضرورة في تعاقبه بياضات الانتقال من ولاية الى أخرى . ذلك أنه وحده الزمن السياسي السلطوي ،يتميز بالنمطية و الثبات. البرلمان المغربي، مؤسسة تحمل أعطاب الديمقراطية في بلادنا،وتجر ورائها تاريخا طويلا من التهميش والإزدراء السلطوي،وهي إمتداد طبيعي لهشاشة النخب و زبونية بعض الأحزاب ،وهي في النهاية منتوج نظام إنتخابي تحضر في كثير من محدداته الإدارة والمال والنفوذ. وهو بالتأكيد ليست مؤسسة مثالية، لذلك فهو محتاج للكثير من النقد الديمقراطي ،لكن ليس للتتفيه الشعبوي . ذلك أنه في السياق المغربي الحالي ، يشكل البرلمان بؤرة للتعبير عن الإرادة الشعبية ، وعن الطموح الديمقراطي . لذلك فمهاجمته ، بشكل يومي ، لأسباب حقيقية أو مختلقة ، أوبلا أسباب تقريبا ، بعد إنتخابات تشريعية ، شهدت واحدا من أعلى مستويات التعبئة السياسية، النوعية و الكبرى ،ف ي تاريخ السياسة ببلادنا ، لابد أن يطرح بعض الأسئلة ؟ ذلك أن هذا الهجوم الممنهج، اليوم ، على البرلمان ،عندما يقرأ في سياقه ، لا يمكن أن يفهم إلا كهجوم بأثر رجعي على 7 أكتوبر، وهو هجوم في العمق على الديمقراطية . والذين يتباكون اليوم على الكلفة النقدية لغياب البرلمان ،نآمل أن نرى لهم دموعا في ما هو خارج دائرة الحائط القصير للمنتخبين، و قبل ذلك ندعوهم بسذاجة إلى محاولة المقارنة بين كلفة غياب البرلمان قبل بناء الأغلبية الجديدة ، وبين كلفة الاستبداد و اللاديمقراطية. وهي مقارنة، مع الآسف، تحتاج الى روح التاريخ وليس الى آلة الحساب المستعارة من أقرب محل بقالة . ذلك أن الديمقراطية ليس مجرد عمليات حسابية ،فالكرامة أو الحرية أو العدالة أمور لاتقدر في النهاية بثمن !