يعتبر الاقتصاد التركي اقتصادا حقيقيا منتجا ومصدرا، وسوقا ناشئة ومتطورة بشكل تصاعدي، هذا جعل تركيا واحدة من الدول الصناعية الجديدة، بناتج محلي إجمالي يجعلها بالمرتبة 15 عالميا. هذه الحالة الاقتصادية النشطة جعلت تركيا تدخل مجموعة العشرين للاقتصاديات الرئيسة، مع سعي الأتراك القوي لدخول مجموعة العشرة (G-10) في أفق عام2023. النهضة الاقتصادية التركية معلوم بدايتها وأسبابها والعوامل التي جعلت الاقتصاد التركي يتحول من اقتصاد الأزمات والركود الحاد والفساد، وارتفاع معدلات التضخم ونسب الفائدة وأزمة السيولة الخطيرة، خصوصا في فترة التسعينات –حيث عرفت تركيا أربعاء أسودا يوم 21 شباط/فبراير2001، يوم شهدت فيه تركيا أزمة اقتصادية ومالية انتهت بانهيار الليرة التركية إلى مستويات قياسية، فقدت خلالها نصف قيمتها- هذه الأحداث اختفت منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002، فتطورت تركيا في جميع الأصعدة وكل الميادين، هذا التطور حولها من بلد ينفد سياسات وأجندة المؤسسات الدولية والدول الكبرى، إلى دولة تسعى لتحقيق مصالحها وتنفذ أجندتها الخاصة، التي تهدف لتطوير البلاد وتأهيل الشعب التركي للوصول لمصاف الدول المتقدمة. وخلاصة هذا التطور وهذه النهضة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجيا أن "تركياالجديدة" أصبحت "مزعجة متمردة" ترفض القيام بكثير من الأدوار التي كانت تتلقها من الغرب، والتي ارتبطت بها منذ سقوط الخلافة وقيام الجمهورية التركية على يد "كمال أتاتورك". وبعد عدة محاولات لتطويعها من جديد، وإدخالها لبيت الطاعة مرة أخرى، وأمام أنفة الساسة الأتراك ورفضهم لتبعية الغرب، والتي تحلق المذلة لشعب ذو حضارة عظيمة، اعتاد على الحرية والعزة، كانت العملية الانقلابية الفاشلة في 15تموز/يوليو 2016 محاولة للرجوع بتركيا إلى مربع اللاستقرار -إلى عهد الانقلابات والأزمات والاضطرابات- لكن الله سلم، وأظهر الشعب التركي ليلتها، شجاعة كبيرة ويقظة عالية في مواجهة الانقلابين. وبعد أربع أشهر على هذه المحاولة الخائبة تتعرض تركيا اليوم إلى محاولة انقلابية أخرى لكن بخطة جديدة قديمة لبست ثوب الاقتصاد والمال، وتلونت بلون العملات بملعب الأسواق المالية والبورصات. فقد عانت العملة التركية من موجة هبوط في الآونة الأخيرة، حيث خسرت الليرة التركية 0.3% من قيمتها في 24 ساعة، بعد أن فقدت 10% من قيمتها الشهر الماضي. مما اضطر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لدعوة الشعب التركي لتخلي عن العملات الأجنبية التي بحوزتهم، وتحويلها إلى الذهب أو الليرة التركية، مشيرا إلى أن تركيا تواجه مؤامرة تستهدف اقتصادها قائلا: "لا تقلقوا أبدًا، فنحن نستطيع إفشال هذه المؤامرات خلال فترة وجيزة، لأن تلك الأطراف مارست الشيء ذاته في 2007 – 2008، وقلت حينها أننا سنتجاوز ذلك بأقل الخسائر واليوم أكرر ذلك مجددًا.... نحن نرى حركة الجمود في الأسواق، ونعلم أن أسباب الجمود هي بسبب الحملة النفسية والدعاية الموجهة ضد تركيا" وكالة الأناضول. لقد نبه أردوغان بخطابه هذا، إلى المؤامرة الجديدة التي تواجها تركيا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، والتي تسعى لمحاصرة تركيا وإضعافها وإشغالها بنفسها، خصوصا بعد فشل العملية الانقلابية الخامسة، ونجاح عملية درع الفرات في الحد من توسع المنظمات الإرهابية وطردها من الحدود التركية-السورية، واستعدادها لتقديم مشروع دستور جديد يشرع للنظام الرئاسي الذي يوطد الاستقرار السياسي بتركيا. لقد تجاوب الشعب التركي بجميع أطيافه مع نداء الرئيس التركي، وقدم مرة أخرى أجمل صور التضحية بالغالي والنفيس من أجل الوطن "تركيا الحرة"، كما تسابق الأتراك في تشجيع بعضهم البعض على تحويل ما يملكون من عملات أجنبية إلى العملة الوطنية. وبعد الحملات الشعبية الناجحة، تجاوبت المؤسسات الرسمية التركي مع دعوة الرئيس التركي، فقد أقدمت بورصة إسطنبول يوم 2 ديسمبر/كانون أول على تحويل جميع مدخراتها من العملات الأجنبية إلى الليرة التركية لرفع قيمتها، كما أعلنت رئاسة الشؤون الدينية التركية أن التعاملات المالية في ما يخص العمرة والحج ستكون بالليرة التركية فقط. وأقدمت وزارة الدفاع التركية بتحويل العملات الأجنبية الموجودة في صندوق دعم الصناعات الدفاعية إلى الليرة التركية، وأعلنت هيئة تنظيم أسواق الطاقة إجراء مناقصات توزيع الغاز الطبيعي بالليرة التركية، بدلا من الدولار. أما شركة الخطوط الجوية التركية فقد أكدت أن تحصيل كافة الضرائب المترتبة على عمليات السفر سيكون بالليرة التركية، ورصدت وسائل الإعلام التركية في مختلف الولايات التركية، إقبال رجال أعمال والتجار والشركات على تحويل ما بحوزتهم من عملات أجنبية إلى الليرة، وتفاني العديد من التجار وأصحاب المهن والحرف والخدمات في تقديم خصوم تجارية و هدايا مجانية لمن يدعمون العملية المحلية. كما هرع السوريون المقيمون بتركيا للمشاركة في حملة دعم الليرة التركية، وتعزيز مكانتها أمام العملات الأجنبية فأطلق عدد من رجال الأعمال والصحفيين السوريين حملة لدعم الليرة التركية استجابة لنداء أردوغان، حيث قام السوريون بتحويل مبلغ مليون دولار أمريكي إلى الليرة التركية في مدينة غازي عنتاب وحدها. هذه الهبة الشعبية والرسمية لتقوية العملة الوطنية هي حل مؤقت لن يحل المشكلة، لكنها موقف رمزي قوي أمام المحاولة الخائبة التي تهدف لضرب العملة التركية عبر المضاربة بالعملات الأجنبية ومهاجمة قطاعي التصدير والسياحة، ساعية لتركيع الاقتصاد التركي بانقلاب اقتصادي، تنبه له الساسة الأتراك ومن ورائهم الشعب التركي، والذي أظهروا وعيا كبيرا كوعي ليلة15 تموز، مصرين على استقلالهم وحريتهم رغم كيد الخصوم والأعداء. تركيا قادرة على تجاوز الانقلاب الاقتصادي مثلما تمكنت من افشال الانقلاب العسكري، لأنها تدرك أن العملة الوطنية رمز وطني إذا مات، كان الهدف التالي، أحد الرموز الوطنية التركية الأخرى. كأن الكاتب الفرنسي "لاكوردير" يقصد الشعب التركي حينما قال : "عندما يكون الوطن في خطر، فكل أبنائه جنود".