أصبح المغاربة يقرأون كل يوم و يسمعون و يرون المشاهد الغير المسبوقة، و صار العالم يتفرج علينا و يرى أغور ما في جراحنا. فلا نكاد ننتهي من حادثة حتى نسمع بأخرى. و آخرها إشكالية البلوكاج السياسي... فإذا كانت الديمقراطية التمثيلية في مبدئها العام تتأسس على مبدأ السيادة الوطنية و تؤمن بقدرة الممثلين على التعبير عن مصالح المواطنين من خلال شرعية الانتخاب و لعب دور الوساطة و نقل المطالب، فان هذا النموذج للديمقراطية قد أكيلت له العديد من الانتقادات خصوصا أمام العزوف عن الانتماء السياسي و بروز فجوة بين الممثلين و القاعدة الانتخابية و بالتالي تدني نسبة المشاركة في العملية الانتخابية ...... هذه الإشكالية تفاعل معها مجموعة من الأساتذة و الباحثين السياسيين، فالأستاذ حسن طارق، من جانبه اعتبر أن ''... النظام الانتخابي الحالي ساهم في البلوكاج السياسي الذي يشهده المغرب، و كذا تطويق الإرادة الشعبية، و ترجمة الخوف من الشرعيات الصاعدة من قلب المجتمع، و وضع القرار السياسي لصناديق الاقتراع تحت رحمة اللعب الصغير لقيادات الأحزاب...''، و هو نفس الأمر الذي ذهب إليه الأستاذ و الدكتور عمر أحرشان حين اعتبر ''... أن تغيير نمط الاقتراع لم يحقق عقلنة التصويت و القطع مع التحكم و الانتقال من التصويت على أشخاص إلى التصويت على أساس برامج وأحزاب ولوائح...''. و من جانبه ذهب الأستاذ الدستوري و المستشار عبد العالي حامي الدين إلى اعتبار''.... أن بناء الديمقراطية لا يختزل تعريفها في معادلة “ النصف زائد واحد”، بل إن إرادة البناء الديمقراطي تتطلب، أيضا، الإيمان بضرورة بناء توافقات شجاعة وصعبة، لكنها مفهومة من طرف الرأي العام... كما أن الديمقراطية ليست هي بالتأكيد امتهان الأصوات المعبر عنها من طرف المواطنين، وتبخر رسالتهم في الهواء الطلق...''، بمعنى آخر اعتبر ف''...الديمقراطية ليست عملية حسابية، ولن تكون، كذلك، مهما أُريد لها أن تكون أرقاما حسابية جامدة، فإن الحكمة تقول إن الديمقراطية قيمة و منهج، أي منظومة من الأفكار والاختيارات الناظمة للسلوك والممارسة، وهي، أيضا، مجموعة من الآليات والوسائل المُمَكنة من بث هذه القيم والأفكار كي تستقيم الممارسة وتكون ديمقراطية فعلا...على حد قول الأستاذ و الباحث الأستاذ امحمد المالكي. إن أزمة التمثيل السياسي من خلال الديمقراطية التمثيلية أدت حسب مجموعة من الفقهاء على رأسهم Dominique Rousseau إلى ميلاد أشكال جديدة للتمثيل حددها في التمثيل عن استطلاعات الرأي، حيث الاعتقاد بوجود رأي عام يتم التعبير عنه من خلال مجموعة من القنوات.... هذه الوضعية تمنح المواطن فرصة التمثيل و بشكل دائم، حيث أصبح هذا التمثيل يشكل صورة جديدا للتمثيل منافس للتمثيل البرلماني.... أما الشكل الدستوري لهذا التمثيل الجديد، فيتم عن طريق القضاء الدستوري خصوصا بعد التنصيص على إمكانية المراجعة القانونية من طرف المواطن، فمنطق اشتغاله يقود بالضرورة إلى منح الأفراد وثيقة للحقوق و الحريات و يفرض احترامها على منتخبي الأمة. إن معطى الرأي العام كمعبر جديد عن آراء المواطن خارج إشراف المجتمع السياسي انتقاد لأساسات النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية التمثيلية بحكم ابتعاد آلياتها عن تحقيق و بشكل فعال إشراك المواطنين في اتخاذ القرار، و جعل البرلمان المجال المجسد للإرادة العامة و فضاء لممارسة السلطة... حتى أصبح الاقتراع العام يشرعن التمثيل أكثر ما يعطي للشعب إمكانية السيطرة على القرارات، كما أن الأحزاب، في معظمها أصبحت مفرغة من المنخرطين و من الناخبين، أما البرلمان فلم يعد مجالا رئيسيا للنقاش السياسي، هذا بالإضافة إلا أن روابط التمثيل لم تعد قائمة قائمة بحكم عدم إقبال الناخبين على الصناديق أو بالنظر إلى تأثير نمط الاقتراع الذي يجعل نسبة غير ممثلة. اليوم ثمة معايير عالمية لممارسة الديمقراطية، تكاد تجتمع عليها الأفكار و النظريات. فبالإضافة إلى تداول السلطة بالطرق السلمية، و محاولة إنتاج قيادات سياسية جديدة، يحضر عامل احترام الرأي العام وتقديره، بمختلف أشكاله، كأحد محددات نجاح العملية الديمقراطية. ففي المجتمعات الأكثر ديمقراطية يمثل الرأي العام مصدراً هاماً في اختيارات السلطة وتوجهاتها، حيث أن المشرع يستلهم القوانين والتشريعات من توجهات الرأي العام، كما أن اهتمام صانع القرار بوسائل الاتصال ينطلق من إيمانه بأنها تمثل أحد المصادر الرئيسية لنقل المعلومات التي يتطلبها أي قرار سياسي عند التفكير في اتخاذه سواء كان خارجياً أو داخلياً. إن الرأي العام يصنع السياسة العامة، كما أنه ليس بعيداً عنها، فاتجاهاته وتوقعات ردود أفعاله، ونظرته لكيفية مواجهة القضايا الأساسية في المجتمع تحدد، من جهة، الإطار العام الذي يتحرك داخله صانعو القرار، و من جهة أخرى، في ما يمكن أن يضعه الرأي العام من حدود على القرارات الحكومية وعلى صنع السياسة العامة، وإحجام المسؤوليين عادة عن اتخاذ موقف أو قرار يتوقعون أن يواجه بمعارضة شعبية قوية. هذه الأشكال الجديدة للتمثيل أطلق عليها الفقيه Dominique Rousseau تعبير الديمقراطية المستمرة و التي تحيل إلى مشاركة الجميع في تشكيل الإرادة العامة و التي لم تعد مختزلة في الحق في الانتخاب و لكنها تستمر بين اللحظات الانتخابية، عبر التدخل التشريعي للمواطن و أيضا ، و هو المهم هنا، عن طريق الملاحظة و من تم مراقبة مؤسسات النسق السياسي..... بمعنى آخر فان الديمقراطية المستمرة جاءت لتعيد النظر في وظيفة المجال العمومي، و بالتالي فهذا الشكل الجديد يقدم اليوم لتأطير أزمة مقومات الديمقراطية التمثيلية. باحث بجامعة عبد المالك السعدي - طنجة