تتبعت ذلك النقاش المغلوط الذي أثاره اقتراحي قانوني المقدمين من طرف أحزاب الأغلبية، حول ما سمي بمحاربة تعدد التعويضات والحد من سقف الأجور العليا بالمؤسسات العمومية. في الحقيقة هذا النقاش يعد خارج اختصاص البرلماني، ويسيء إلى صدقية مؤسسة الحكومة، ذلك أن دستور 2011 نص في فصله 71 على أن مجال تدخل البرلمان فيما يخص قضايا الموظفين مدنيين كانوا أم عسكريين، هو "النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية و الضمانات الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين" وهو نفس توجه المحكمة الدستورية في قرارها السابق عند فحصها للنظام الداخلي لمجلس المستشارين. وعليه فموضوع تحديد الأجر في الوظيفة العمومية يدخل ضمن مبدأ عام كإحدى الضمانات الأساسية في وجوده كحق، أما حجمه وقيمته وطبيعته فهو موضوع يدخل في صميم اختصاص السلطة التنظيمية التي تمثلها الحكومة. إذن لماذا هذه البهلوانية السياسية؟ فإذا كان اختصاص تحديد سقف الأجور يعود بشكل خاص إلى الحكومة، وهي مكونة من أحزاب الأغلبية، وكانت لهذه الأخيرة القناعة فيما يهم هذا الموضوع، فلماذا لم تفرض هذه الرؤية من خلال القنوات السياسية التي هي الأحزاب السياسية المكونة لهذه الأغلبية، ما دام الموضوع خارج الاختصاص الدستوري للبرلمان؟. إن هذا الانحراف التشريعي في حقيقة الأمر ليس فقط جهلا بالقانون، ولكنه رغبة في المزايدات الشعبوية التي تفسد السياسة ولا تنفعها في شيء، لكون الموضوع الذي يجب مناقشته في الأصل، هو تعدد التمثيليات الانتخابية وليس الجمع بين التعويضات. و هذا نقاش ليس بنقاش جديد على الساحة البرلمانية والسياسية، فخلال الولاية التشريعية السابقة حينما حاولنا كبرلمانيين أن نضع في القانون أكبر ما يمكن من حالات تنافي الجمع بين المهام، لفسح المجال أمام طاقات أخرى ومختلفة قصد المشاركة في تدبير الشأن العام، ولضمان كذلك الشفافية في إدارتها من خلال الحد من تراكم الوظائف الانتخابية في يد قلة من السياسيين، إلا أن الحكومة وأغلبيتها عارضتنا بشدة، بل أتذكر أن وزيرين في الحكومة السابقة قادا معركة ضارية ضد ذلك القانون الذي يوسع من دائرة التنافي، مما جعل بنكيران يتدخل شخصيا لدى الأغلبية لإلغاء ذلك القانون وفي الجلسة العامة من أجل عيون الوزيرين. والآن يتضح أن الأغلبية تقفز عن الموضوع نحو الحديث عن الجمع بين التعويضات، في حين أن الموضوع مرتبط بتراكم المسؤوليات والتمثيليات، فكيف يعقل أن يسير وزير في الحكومة قطاعا وزاريا ضخما ويدبر بالموازاة شؤون بلدية مدينة كبيرة؟ وكيف يمكن الجمع بين مسؤولية في البرلمان وفي نفس الآن تدبير شؤون عاصمة اقتصادية أو علمية؟. الحقيقة أن الإشكال في الأصل وليس الفرع، وقد اتجه أصدقائنا في الشمال -في فرنسا تحديدا- بعد أن فشلوا أمام صعوبة الحد من طموحات السياسيين، إلى التخفيف من رعونتها من خلال وضع قانون يدعى "بمنع جمع التمثيليات الانتخابية والوظيفية" والذي كان مقترحا من الرئيس هولاند، تلتها الدعوة نحو تخليق الحياة السياسية، من خلال قانون جديد قدمه هذه المرة الرئيس "ماكرون" بواسطة حزب الوسط "بايرون"، وهو نفس الإشكال المطروح علينا اليوم داخل البرلمان، ذلك أن المصالح المالية والسياسية الضيقة، تفرض تأثيرها الكبير ليس على البرلماني فقط، ولكن كذلك على المجال الحكومي، وآنذاك تتضارب المصالح، وأعتقد أن تضارب المصالح والحد من عنفها هو الموضوع الأكثر خطورة على حسن تدبير وضعنا السياسي. فعلاقة المال بالسياسة ظلت تطرح إشكالا كبيرا داخل الأنظمة السياسية، ذلك أن المال يحاول أن يهيمن ويؤثر على القرار السياسي، والسياسي يحاول من خلال السياسة أن يصنع المال، وكلاهما عقدة الديمقراطية بشكلها الليبرالي، فبقدر ما تكون السلطة مغرية للتقرير في مصير الناس بالقدر نفسه يكون المال مغر للذات ولضبط العلاقة مع الناس أنفسهم. وإذا كانت الديمقراطية هي ذلك المجال لتصارع السياسة بالمال، فإن الذي يرفع الشعارات الكبرى يجب أن يدرك أن تلك التناقضات الصغيرة قد تفكك مشروعيته السياسية. لذلك فالأغلبية لن تحقق إنجازات حتى بإلغاء التعويضات في القوانين التنظيمية والقوانين العادية الأخرى، مادامت تفتقد القدرة على الحد من تراكم المسؤوليات، لكي تتحول الديمقراطية إلى ديمقراطية للعموم وليس ديمقراطية في خدمة "التيار".