في اليوم الذي يتزامن مع ذكرى قرار التقسيم الذي يسمى اليوم العالمي للتضامن مع فلسطين، وفي الربع الذي مضت عليه 500 عام على فتح بيت المقدس على يد العثمانيين، وفي الأرض التي نجت مؤخرا من انقلاب عسكري محتم لولا قوة الشعب وتماسك القيادة والأحزاب والنخب، ومن مؤتمر برلمانيون من أجل القدس يخرج رئيس تركيا أردوغان ليصحح القول في أحقية المسجد الأقصى ليقول أردوغان صباح اليوم في المؤتمر الأول لرابطة برلمانيون لأجل القدس: "تحوي مدينة القدس أماكن عبادة للأديان الثلاثة، أما الحرم القدسي الشريف الذي يضم المسجد الأقصى وما تحته وقبة الصخرة فهو مكان عبادة حصري للمسلمين". تأتي هذه الكلمات تصريحا تصحيحيا بعد الضغط الإعلامي وتكاثف الجهود السياسية والعلمية لمختلف مشارب التخصصات بعد أن صرح أردوغان مؤخرا بزلة لسان كما اعتقد إلى قناة إسرائيلية أن المسجد الأقصى لكل الأديان. البعض حسبها زلة لسان وبادر إلى تقديم النقد إلى أردوغان فاستدرك الرئيس تصحيحها وأرجع الأمور إلى نصابها والمسجد الأقصى إلى أهله وهويته الإسلامية ولربما هذا ما عرف في الرؤية التركية. والبعض حسبها فبركة مترجمة من الإعلام الإسرائيلي الذي يصطاد في الماء العكر دائما ليجعل موقف أردوغان حول القدس باعتباره مدينة للأديان الثلاثة كموقفه من المسجد الأقصى باعتباره كذلك مكان لكل الأديان. وهؤلاء كذلك بادروا بالنصح والتوجيه لمراجعة الخطأ. وسواء كان السبب في بروز العبارة باعثه الزلة اللسانية أو الترجمة الاسرائيلية المفبركة تزويرا وتصحيفا فإن الحدث له إشارات ودلالات لابد من الوقوف عليها : - الدرس الأول : أن رسالة المثقفين والسياسيين والغيورين والعلماء لم تتأخر بعد خروج التصريح من فاه أردوغان أن المسجد الأقصى هو حق للديانات الثلاث. ولم تستنكف الرسالة عن النصح للقادة وإبداء الرأي الصواب لتصحيح المسار والحفاظ على المبادئ والثوابت في ما يخص المقدسات الإسلامية. ولم يتحرج هؤلاء في النقد البناء لأردوغان رغم وجود طغمة من العقليات إما بالغت في النقد لأردوغان فأساءت إليه عمدا، فبدعته وأخرجته عن الملة ولم تتريث في قولها، وإما فئة أخرى مائعة لم تخطئ تصريح أردوغان عن المسجد الأقصى بل وجدتها فرصة لتأكيد ما قاله أردوغان أن المسجد الأقصى هو لكل الأديان، كما القدس هو لكل الأديان، وهولاء يتبعون ضالة الصهيونية ويتمسحون ببركاتها ويركعون على أعتابها، منهم المثقفون والعلماء والسياسيون لكنهم في صنف وطبقات ديدان القراء الحمقى والعميان الذين يقتاتون من خوان السلاطين والساسة. وهناك فئة لم تتعجل وما استنكفت عن الخطأ سواء كان من زلة لسان أو تصحيف لترجمة صهيونية لعبت بالكلمات، ولا أوافق البثة من فئة شككت في تصريحات أردوغان مع القناة الإسرائيلية أو تصريحه في مؤتمر برلمانيون من أجل القدس من أن الرئيس يعلم ما يقول ولم يقع في زلات بل إنه يتلاعب بالقول والكلمات ليجبر الخواطر ولا يقطع الخيوط بين الأطراف المتضادة. - الدرس الثاني : هي هذه الجرأة في التصحيح أو سميها إن شئت مراجعة تحسب للرجل للرئيس أردوغان بعد تراجعه عن زلة لسانه كما حسبها البعض أثناء حواره مع القناة الإسرائيلية لما قال "المسجد الأقصى لكل الديانات" وهذا لا يتناسب ربما مع الرؤية التركية ولا يجوز تاريخيا ولا حضاريا ولا علميا كما صدر مؤخرا من اليونسكو. - الدرس الثالث : الرد الأردوغاني وصف بالسلس والسهل في الزمن والفعل والقول بكلام واضح فاصل يعمل على التفريق بين القدس والأقصى، وحصرية الحق في المسجد للمسلمين، هذه السرعة السلسة في الرد والمراجعة هي التي تحجب توسيع توابع الثغرة والزلة اللسانية. هو رد تصحيحي مراجعاتي مقدر بالزمن السريع في الرد بعد حملات الإعلام وردود أفعال الغيورين، فأردوغان لم يتلكأ تبطأ في التصريح والإدلاء بالتصريح ، بل وصلت له الرسالة وساهمت فيها الأطراف العلمية والإعلامية والقانونية والسياسية من ذوي الضمائر الحية التي تصنع الفعل وتعيد البوصلة إلى مجراها. - الدرس الرابع : هذه الجرأة هي التي لم نعتدها في حكام العرب بل تكاد تختفي انعداما اتجاه قضيتنا الفلسطينية وأمتنا الإسلامية، بل نكاد نفاجؤ من حكامنا بنقيض الجرأة من خصال الوهن والدعة والاستكانة، فهو يخطئون ويوغلون في الخطأ ويرجعون الخطأ صحا والجرم براءة، والمواقف والتوابث هذيانا واضطرابا و طمسا وطرسا للأصل والتابث. بل لمسنا خصوصا بعد الربيع العربي الذي عرى سوآت الحكام الجرأة السلبية الجبانة على التوابث الفلسطينية وقضية حصار غزة والمقاومة الغراء والانتفاضة. وهذه الجرأة الرعناء السالفة هي التي دفعت نتياهو قدما وجرأة ليتبجح في تصريحاته حين يقول : "لا بد من مقاومة الإرهاب والدفاع عن اسرائيل والذود عن ملفاتها وطموحاتها خصوصا أن دولا عربية أضحت تصطف مع صفنا ومبادئنا". هي جرأة صهيونية زادت بلتها بسبب الجرأة الواهية الواهنة من الدعة الحكامية. - الدرس الخامس : الرجل الأردوغاني يعلم ما يقول وقد أحسن التصحيح وبين عن سوء خطئه بسلاسة يفهمها اللبيب من خلال ما صحح من تصريحه الأول، الذي قصد به نفي ما سبق، ونلمس هذه الإشارة من خلال النصوص والعبارات التي صرح بها مؤخرا التي لم تختر اعتباطا بل كانت مختارة بدقة للدلالة على الفرق بين القدس الذي هو مكان للعبادة للديانات الثلاث والأحقية المقدسة في المسجد الأقصى للمسلمين باعتباره تراثا إسلاميا خالصا حسبما صرحت به اليونسكو . وهذا ما شهدت به الوثائق والعهود الإسلامية التاريخية بعد الفتح وخصوصا العهدة العمرية التي تعد كوثيقة إدارية منظمة للمجتمعات والشرائح، فضلا عن غيرها من العهود والوثائق التاريخية القانونية التي تضمن حق العيش في بيت المقدس للجميع وحق العبادة المكفول لكل الديانات، لكن المسجد الأقصى وحدوده حق تاريخي مقدس للمسلمين. - الدرس السادس: أخطأ أردوغان خطأ ليس بخطيئة وذكر الأقصى بدل القدس وهي كلمات تتردد في ألسنة السياسيين الأتراك عرفا. لكن هذا لن يخدش في المواقف التاريخية لتركيا اتجاه فلسطين رغم المؤامرات والتكالبات العالمية الاستكبارية للانقلاب على الدولة. تركيا موقفها من فلسطين واضح رغم أشكال التطبيع التركية الصهيونية التي قد تشوش على هذه المبادئ والمواقف، لكن أعتقد أن موقف تركيا لم يتغير من الأقصى ومختلف ملفات فلسطين، وقد قدمت تركيا في كم من مرة عربون صدق عن نصرتها للقضايا خصوصا القضية الفلسطينية، لأنها تؤمن أنها ضمير الأمة وقضية الإسلام والإنسانية ومركز الصراع. ودع عنك من يتملق لفلسطين باسم الممانعة والمقاومة ذريعة وطريقا لتحقيق تمدده الفارسي التاريخي الذي حلم به، والتاريخ يشهد أن بيت المقدس احتل من قبل الدولة الفارسية أكثر من مرة، وقدم فلسطين على طبق إلى الصلييين بمؤامرة تاريخية. تركيا لم تذخر جهدا لاحتضان المقاومة الباسلة والكينونة مع الانتفاضة وحروب غزة وأساطيل الحرية بل أتبثت تركيا مواقف فعلية في مؤتمر دافوس، حين قام أردوغان مستشاطا من الجلوس أمام مجرم وسفاح قتل الآلاف من الأطفال والنساء باسم الإرهاب. في مقابل ذلك نجد حكاما عربا يعلن أحدهم من وراء الجذر خصوصا أثناء الإعلان عن التقسيم الزمني والمكاني للمسجد الأقصى بإنزال الجيوش الأردنية لتحرير فلسطين. ثم يخرج رئيس آخر من مؤتمر فتح مؤخرا ليصرح دون زلة لسان تصريحا دالا على "العمق الاسترايجي لتحرير فلسطين والتي زلزلت كيان " إسرائيل " بدأ التصريح : "من يعتدي علينا لن نعتدي عليه بل سنشتكيه لله وللأمم المتحدة". فقلت : تمخض الجبل فولد فأرا. جعجعة بدون طحين ليس إلا. -الدرس السابع : الدرس الآخر الذي ينبغي أن نعيه هو أن خطأ أردوغان كان نقطة مضافة إليه واعتذاره يحسب له لا عليه، ويعزز من مواقفه ومن شخصيته ويقدم نموذجا للحاكم المصحح لأخطائه التي لا تتناسب مع حجم مواقفه وتوابث بلاده اتجاه القضية الفلسطينية وكل القضايا. يتراجع الرجل التركي الأردوغاني عن قوله في زمن قصير في زمن غصت به محافل المؤتمرات العربية بالأخطاء بل الخطايا والخطيئات الحكامية. ودع عنك أخطاء وخطايا ومثالب حكامنا ومسؤولينا التي تنشر كل يوم في قنوات الأنظمة العربية المستبدة، تنشر زلة بعد زلة، ثم بعد وقت قصير يخرج أباطرة الإعلام ليزيونها ويقدسوها تبجيلا، ويجعلونها أسا وأساسا تشيد عليها القرارات والتصورات، بل ويبني عليها الفنانون دون بطئ أشعارا وأغاني تسلم منها الأيادي الأفواه. ولنا في النموذج السيسي وخطابته دليل واضح على خراب الخطابات وفساد الذمم وذبول الهمم. زد الثالث إلى السابقين من الحكام اللذين ذكرنهما مؤخرا. - الدرس الثامن : فكما لعب الإعلام التركي دورا مهما بارزا بل مفصليا في إفشال أحداث الانقلاب العسكري على تركيا فإن الإعلام القوي يبرز مرة أخرى كوجه ناصح وناقد للرئيس من خلال حملاته القوية دون حرج لأنه إعلام مستقل ومنفصل عن السياسة. -الدرس التاسع : هو حين تستشف من الحملات الإعلامية والرسائل الديبلوماسية والسياسية والثقافية والعلمية والأكاديمية تواصلا مميزا مباشرا أو غير مباشر مع أردوغان، من أجل تصويب زلة اللسان، وأظن أن الرجل التفت إلى النصح والتوجيه، وهذا يذكرنا بالتكامل والتخصص الذي كان بين العلماء والمفكرين والمثقفين والساسة المسلمين لترسيخ المواقف وترشيد السياسة دون نزول عن القصد والتوابث. أظنه لن يصل أردوغان إلى النموذج المطلوب والذي نطمح له لظروف داخلية وخارجية، لكن نأمل أن يأخذ الرجل بالمثال، ويقتدي بالتاريخ الذي يشهد أن التابث لا يتحول مادام في جعبته تاريخ أصيل وحاضر صانع ومستقبل مستشرف. لكن رغم ما يتوفره الرجل الأردوغاني من مواقف تحسب له قبل الانقلاب اتجاه الدولة اقتصاديا وبعد الانقلاب اتجاه البلاد سياسيا، فهذا لا يمنعنا من النقد والنصح، فلا ينبغي أن نجعل هالة للرجل تحجب أخطاءه وقداسة ترفعه فوق ما لا يرضى ونعامله معاملة سلطان وحاكم متجبر صلفا وأنانية وتكبرا، وأظن هذا ما يرفضه قطعا رئيس تركيا. وللأسف هذه القداسة للسلاطين والحكام التي تحجب الأخطاء بل وتزينها هو ما نلحظه في أنظمتنا الديكتاتورية التي تضع قداسة للحاكم قانونيا ودستوريا، فهو الشخصية المقدسة الذي لا يخطئ وكلامه لا يناقش، وصاحب السمو العالي والشرف الغالي. بل ويقول الفلول وأرباب البطون من علماء القصور : أن الرجل يتكلم بحق إلاهي كلامه كلام النبوة. أين أنت يا عمر. ؟؟؟ -الدرس التاسع : هو وجود ثلة من الأتراك الذين لم يساوموا الرجل الأردوغاني سكوتا وصمتا وخرسا بعد زلة لسانه اتجاه المسجد الأقصى، بل أرسلوا الرسائل وقدموا النصح وفي ذلك إشارة إلى التكامل بين النخب والقيادة بين الساسة والرئيس دون قداسة للشخص أو تخيله بطل لا يخطئ. الدرس العاشر : وهو خلاصة أمر ورسالة للعالمين وإلى الضمائر الحية والغيورة. في الأخير أرجو أن تعود العلاقة التكاملية بين المتخصصين من أهل المعرفة والثقافة والعلم والإعلام وبين الساسة في دولنا العربية فهي والله سبيل تكوين تصور استراتجي موحد للخروج من أزمات المنطقة بل والعالم اتجاه التمدد الإيراني والغربي بمخططاته لتقسيم المقسم وتفتيت المفتت شلوا ممزعا، لكن أرى أن خطة الديكتاتورية تميل إلى اعتقال وقتل وإفناء دور العلماء والمثقفين والنخب الراشدة القائدة للشعوب والتغيير والنهضة لأنهم هم أريج الثورات والتغييرات إن فسدت البطانة والساسة. ولنا في التاريخ نماذج نجحت في القيادة والريادة والسيادة العربية والإسلامية لأنها رأبت الصدع بين المعرفة والسياسة، بين العلم والسيادة. ولنا في النموذج الأيوبي واللقاء التاريخي بين القائد السياسي المحنك العادل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، و رجل الدعوة والعلم والرؤية القاضي عبد الرحيم البيساني رحمه الله مثال يحتدى به اقتفاء ودراسة، حين وضع صلاح الدين الأيوبي بجانبه رجل معرفة يسمى عبد الرحيم البيساني الذي قاد خطة صلاح الدين الأيوبي التغييرية ورسم معالمها الاستراتيجية لتحرير الأمة ضد داء الدولة الفارسية والصليبية. وصرح الرجل الصالح المصلح صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تصريحا بارعا موجها بعد الانتصار في معركة حطين على التكالبات الاستكبارية وبعد القضاء على الدولة العبيدية في مصر : "لا تظنوا أنفسكم انتصرتم بسيوفكم ورماحكم بل بقلم القاضي الفاضل". وختم القول مرة : اللهم اجعلني حسنة من حسناته. أي حسنة من حسنات القاضي الورع الرباني عبد الرحيم البيساني. نعم حسنة بقرب حسنة، كلمة بقرب فعل. وتصور قرب حركة.