ذلك لأنها: أقدم من الفلسفة، وأثبت من العلم، وهي تتخلل جميع النصوص الدينية السماوية والأرضية، وتكاد تمثل مضمون جميع الأشعار والأمثال والخطب والآيات والحكايات... المؤسسة للآداب الإنسانية في العالم القديم والوسيط. هي خبرات مركزة، وخلاصات معرفية... موجهة للمعاملات وللسلوك القويم، وتكاد لذلك تعتبر حصرا، مضمون جميع الأساطير والخرافات المؤسسة للوعي الديني وللاجتماع البشري بالتالي للمدنية والحضارة والأخلاق والأسرة... ولذلك نجد أن جميع الأنبياء والمفكرين العظام ورجال الدولة والأولياء... اشتهروا بأمثالهم وجوامع كلمهم الحكمية، واستمرت لذلك مؤثرة في المجتمعات بعد موتهم... وحتى اليوم. الملاحم القديمة، وكتاب "الموتى" الفرعوني وإيسوب (وأيوب) ولقمان وسليمان وسقراط ومزامير داوود وبيدبا وزهير... والعديد من الأحاديث النبوية الشريفة، والشاعر الأعظم (المتنبي...) إلخ هي بعض معالم ذلك التاريخ العريق والممتد للحكمة العالمة والشعبية معا. ولعل بعض التصوف وأقطابه، في كل زمان ومكان، يعتبر من أكثر مواطن الحكمة رعاية لها ومحافظة عليها وسلوكا بتوجيهاتها. وكذلك وبالأحرى عموم البسطاء والمعدمين في جميع الأوطان والشعوب. وفي المقدمة منهم المرأة التي طالما تسلحت بها في مقاومة القهر بأنواعه، وكذلك الشيوخ والعجزة والمرضى يتأسون بها، ويحافظون على تماسكهم وتوازنهم واحتمالهم.. بواسطة التأسي أو حتى العزاء عن طريق ترديدها... والتذكير بها.. ولاشك أن "المجذوب" في المتصوفة الصلحاء، كما بالنسبة للشعراء المغاربة، يعتبر حالة خاصة، بل واستثنائية في التجربتين المغربيتين معا: التصوف من جهة وشعر الملحون من جهة ثانية. ولأن شعره يكاد يتلخص في حكمه والعكس. ولأنه كان ناقدا صريحا وهاديا للسلوك بليغا، فلقد تمكن من اختراق جميع الحدود: الجغرافية – والاجتماعية والمجتمعية والثقافية... فالجميع يردد كلامه ذكورا وإناثا – بادية وحاضرة.. كبارا وصغارا أغنياء وفقراء... في عهده وما تلاه من عهود وحتى اليوم. وكذلك هي قصة الحكمة في الشعر كما في النثر، "ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها فهو أولى بها". ولعل مظهرا من أهم مظاهر أزمة بنياتنا الثقافية والتربوية والإعلامية التي يفترض منها إنتاج وإعادة إنتاج المواطن الصالح لنفسه ولأسرته ولوطنه.. هو افتقادها جميعا للحكمة. وهو أمر موروث عن الاستعمار القديم، مستمر مع جديده السائد. إن معرفة وسلوكا... بدون حكمة، معرضان للإخفاق في أية لحظة وأمام أي خطر جدي. وما أكثر مناسبات وشروط ذلك المحدقة بنا شعبا ودولة ووطنا. *(الضالة: الشجرة المنفردة في مفازة. يستهدى بها في المتاه).