إن المتتبع لمجريات الأحداث السياسية بكل تجلياتها وتداعياتها؛ كثيرا ما يسمع بمصطلح الأعيان. هذا المتغير السوسيو- سياسي وإن كان يحمل معنى المدح والتعظيم والتفخيم، إلا أن الكلمة في الاستهلاك السياسي اليومي تغلب عليها صفة الذم والقدح، ويرجع ذلك لأسباب تتعلق أساسا بالممارسة السياسية التي زاغت عن العقيدة الإيديولوجية، واتخذت منحى براكماتيا صرفا؛ لا يعبأ بالأخلاق ولا بالمبادئ في السياسة، والغاية من أجل ذلك تبرر كل الوسائل. لذلك لا بد من إعادة صياغة مفهوم الأعيان؛ ومن ثم إعادة تشكيل الوعي التقليدي للنخبة التي أصبحت اليوم تتحكم فيه عدة عوامل ترتبط بالناخبين، وبالقوة التنظيمية للأحزاب، وبالقدرات والمؤهلات العلمية التي يتوفر عليها السياسي على وجه العموم. وفي ظل كل هذه المتغيرات؛ التي ساهمت وسائل التواصل الحديثة في خلخلتها وحلحلتها، إضافة إلى عوامل موضوعية وأخرى ذاتية؛ مكنت المواطن البسيط من اختراق الطابوهات، وإماطة اللثام عن الهالة الزائفة المترسخة في المخيال الجمعي، والتي ظلت تحيط بتلك النخبة المدججة بسلاح المال والأعمال؛ الذي يؤهلها تلقائيا للسطو على خبايا السياسة وأسرارها ومآلاتها، فإن اللافت للنظر، ضمن هذه المتغيرات، أن ثمة اختراق نوعي من لدن الطبقات الدنيا للجدار السياسي المختطف، وبالتالي سحب البساط من تحت هيمنة الفئة التي ترى في نفسها أنها خلقت لاحتكار السلطة والثروة معا. وإذا ألقينا لمحة خاطفة عن الملابسات التي تحيط بتشكيل الحكومة الحالية؛ يتضح جليا أن الأمور لا تخرج عن هذا التجاذب الطبقي لكسب الرهان السياسي؛ بين فئة تؤمن بصناديق الاقتراع، وترى جدارتها بتشكيل الأغلبية باعتبار العامل الديمقراطي الموضوعي المرتكز على الإرادة الشعبية، وبين طائفة تحاول الالتفاف على هذه الإرادة، وترى أحقيتها لتوضيب المشهد السياسي وفق أهوائها ونزواتها ومصالحها؛ باعتبار عامل التاريخ والعرف الذي ما فتئ يتأسس على الثروة والمال والسلطة. إن الأمر هنا يتعلق، باختصار شديد، بصراع بين طغمة بأجنحتها المتعددة والمؤلفة من الأثرياء وأصحاب النفوذ والوكلاء، وتمثل قلة قليلة في المجتمع، وبين طبقة تشكل السواد الأعظم لهذا المجتمع؛ وإن كانت لا تملك الأموال الطائلة والثروة الهائلة، إلا أنها استطاعت، بالاعتماد على النفس، أن تنمي قدراتها العلمية ومهاراتها المهنية، وتنافس في ميدان المقاولة، وتخترق مهن القضاء والطب والهندسة والتعليم العالي، وتلج الفضاءات التشريعية. هي إذن ثورة ناعمة؛ قوامها الاعتماد على النفس والإرادة والوعي والطموح؛ من شأنها أن تقلب موازين القوى، وتعيد تشكيل المفهوم التاريخي للسلطة وللجغرافيا السياسية. وبالتالي كيف يمكن للثروة في ظل هذه الثورة الهادئة، وفي ظل التنظيمات الحزبية المحكمة، أن تصبح عاملا لخدمة السياسية، وليس العكس، وألا تتحول مع الزمن لوسيلة للتسول والاستجداء السياسي، بعدما كانت ولا تزال تحتمي بالسياسة، وتورط أصحاب السلطة في قهر الشعوب وقمعها.