في سباق شاق وطويل، استطاع المرشح الجمهوري والملياردير الأخرق "دونالد ترامب"، تكذيب كل التكهنات ومباغتة العالم بالوصول إلى البيت الأبيض، وهيمنة حزبه على مجلسي النواب والشيوخ، إجهاض حلم غريمته السياسية، ممثلة المؤسسة الأمريكية المدللة الديمقراطية "هيلاري كلينتون"، ويصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدةالأمريكية، بعد فضحه زيف استطلاعات الرأي، وقلب الطاولة على كافة المحللين السياسيين والخبراء الكبار، الذين تنبأوا له بخسران مبين. وقد أحدث هذا الانتصار الكبير رجة قوية في العالم، حيث لم يكن أكثر الناس تشاؤما يعتقد أن كفة الانتخابات الرئاسية ستميل لصالحه، إذ كانت هيلاري الأوفر حظا في حمل المشعل وقيادة أمريكا، اعتبارا لرصيدها السياسي ودعم كل من زوجها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون، والرئيس الحالي باراك أوباما وخلفهما الكثير من الحكام العرب والمسلمين، فيما لم يكن الكثيرون يرشحون ترامب لكسب رهان المعركة، بالنظر إلى حماقاته وتصريحاته العنصرية. نعم اهتزت "الأرض" أمام هذا الحدث المفاجئ، ورغم إيمان الأمريكيين الراسخ بأسس الديمقراطية، تواترت ردود الأفعال الرافضة لتوليه منصب الرئاسة، وانطلقت الاحتجاجات الصاخبة داخل أمريكا وخارجها، للتعبير عن حالات الإحباط والانقسام في ظل الأوضاع غير السوية، خوفا من تنفيذ ما توعد به سواء تجاه المسلمين أو الأمريكيين السود من أصول أجنبية أو المهاجرين من المكسيك، ولم لا إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة، بعد أن أبان عن اندفاعه في الحملة الانتخابية والمناظرات العمومية ؟ ورغم كل الانتقادات اللاذعة، ليس فقط من خصومه وغريمته هيلاري، بل أيضا من قادة حزبه في الكونغرس ومجلس الشيوخ، حول تناقضاته المتعددة وخطابه الاستفزازي وافتقاره إلى الحنكة السياسية، وما تعرض إليه من حملات إعلامية حول علاقاته الجنسية والتشكيك في ذمته المالية، فلم تنل من صموده "الأعاصير"، ولم تفد في الإطاحة به الضربات الموجعة، ومواقفه السلبية من السود والمسلمين والمهاجرين والنساء، وشكل صعوده المفاجئ للرئاسة صدمة عنيفة للجميع. مما يؤكد على حقيقة واحدة، هي أنه لم يكن بتلك السذاجة التي تصوره بها كثيرون، وأثبت قدرته على فهم الشعب الأمريكي وأهم انتظاراته، وما يشعر به من ضجر وغضب على الحكام الأمريكيين، لابتعادهم عن انشغالاته وهمومه. ومن ثم استطاع بدهاء دغدغة مشاعر الناخبين واستمالتهم للتصويت عليه، يحذوهم الأمل في التغيير نحو الأفضل والحد من معاناتهم، خصوصا أن المزاج الأمريكي تغير كثيرا في ظل التحولات المتلاحقة، ولم يعد كما كان في السابق، حين كان يرفض الميل إلى اليمين المتطرف. وفضلا عما تميز به ترامب من عفوية وصراحة غير مألوفتين لدى كبار الساسة المحترفين، فقد ساعده أيضا في إلحاق الهزيمة بالحسناء هيلاري، ظهور رسائلها الإلكترونية وما تضمنته من فضائح، تمثلت أساسا في تلقيها تبرعات مالية مشبوهة، أو تقديم استشارات وتمرير مواقف بعض الدول.. وعلى كل حال، لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا، أنه كيفما كان شكل الفائز بمفتاح البيت الأبيض، جمهوريا أم ديمقراطيا، أبيضا أو أسودا، هما في آخر المطاف وجهان لعملة واحدة، وأنه إذا كانت الصين متفوقة في صناعة الدمى والروبوات الإلكترونية من مواد صناعية، فإن أمريكا تصنعها من لحم ودم وأرواح بشرية حسب إكراهات المرحلة، يتحكم فيها عن بعد وفق مزاج اللوبي الصهيوني، الحاكم الأمريكي الحقيقي، المسيطر على ثروات العالم، والساهر على حماية مصالحه باستخدام القوة العسكرية. وبصرف النظر عن كل الاعتبارات، وعما إذا كان فوز ترامب مخططا له سلفا، ليلعب ما رسم له من دور في إعادة ترتيب أولويات بلاده، يهمنا في المغرب أن نعلم أنه باستثناء اتهامه هيلاري بتلقيها رشوة بقيمة 12 مليون دولار مقابل قيامها بزيارة خاصة، ووصفه المغاربة بأوصاف قبيحة في لحظة غضب عابرة خلال حملته الانتخابية، فإنه لم يبد أي موقف عدائي تجاه بلادنا، علما أننا كنا نفضل فوز منافسته لما جمعنا بها من علاقات صداقة متميزة، ومساندتها لنا في أحلك الظروف. وأنه عندما سئل مرة عن رأيه بخصوص جبهة "البوليساريو"، لم يتردد في تشبيهها بأحد فروع "داعش" الإرهابية. نعم علينا عدم الانسياق وراء التهويل وإساءة الظن به، مادمنا لا نستطيع حاليا استجلاء طويته ومعرفة حقيقة تصوراته عن وحدتنا الترابية، التي عمرت طويلا واستنزفت الكثير من الجهد والمال، دون أن تعمل أمريكا على محاولة حلحلة النزاع المفتعل حول الصحراء مع شرذمة من الانفصاليين وراعيتهم دولة الجزائر. بل يسجل عليها تقديمها مؤخرا مشروعا لمجلس الأمن، يقترح توسيع صلاحيات المينورسو ليشمل مراقبة حقوق الإنسان، والتزامها الصمت إزاء تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، عندما وصف الوجود المغربي بصحرائه احتلالا... ففي عهد الديمقراطيين، عرفت العلاقات بين بلدينا بعض التوترات استدعت التقارب مع موسكو، خلافا للجمهوريين الذين كانوا من أكبر أصدقائنا، وكاد جورج بوش الابن تغيير مسار صراع الصحراء، حين طرحنا مشروع الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية. عموما، الشعب الأمريكي اختار ترامب رئيسا له، وهو يعلم أنه ليس وحده من سيحكم البلاد، ويحدد سياستها العامة، إذ هناك نظام رئاسي مضبوط يوزع السلطات، ومؤسسات قوية تتحكم في صنع القرار من خلف الستار، منها المؤسسة العسكرية والمخابرات والشركات الاقتصادية العملاقة... وهو ما يحتم على المغرب الاستمرار في استثمار الدعم الأمني لأمريكا، باعتباره البلد الأكثر استقرارا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.