مهما تمعنا في هذا الكون الواسع اللامتناهي في الصغر وفي الكبر ومهما تعمقنا في ذراته وأنويتها التي لن تنتهي في نتروناتها وبروتوناتها بل وكلما غصنا وغصنا الا وازدادت عوالمه الدقيقة اكثر غموضا واكثر تعقيدا وازدادت حيرتنا وقلة علمنا وأصبحنا اكثر قناعة أن هذا النظام المعقد الذي يعجز حتى عالم الكوانتا في شرحه بصورة مفصلة ومنطقية وحتى مجملة؛ لأنه عجز عن فهمه بنظرته المادية فقط؛ وكلما سبحنا في مجراته وانتقلنا بين كواكبه وحددنا مساراتها ومكوناتها والقوى التي تتحكم في انتظامها وتأثيراتها البينية وبين العوالم الاخرى، الا وزدنا يقينا بأن لا الميكانيكا الكلاسيكية ولا نظرية النسبية يمكنها ان تحدد بشكل دقيق هذه التأثيرات الجاذبة والطاردة احيانا في الزمكان. وان هذه القوى مهما كبرت او صغرت يبقى العقل البشري عاجزا عن ادراكها وفهمها بدقة وتبقى دائما مجرد نظريات تحاول ان تضع نموذجا محاكيا للواقع وقريبا من الحقيقة فهما للظواهر الطبيعية ومحاولة لتقنينها، فكلما سبحنا في العوالم الكبيرة او غصنا في الدقائق الصغيرة والا وقلت معرفتنا وازداد شكنا واصبحنا اكثر يقينا بأن جهلنا اعمق وأكثر، وان هذا العاقل الوحيد على هذا الكوكب أكثر ضعفا واقل حيلة أمام اي طارئ او ظاهرة طبيعية تصادفه في حياته اليومية مهما تجرد، وحتى محاولة فهمه وتنظيمه للعالم الوسطي الذي يعيش فيه ما بين الميكرو والميزو والماكرو قد فشل فيه فشلا ذريعا فلا القوانين الوضعية الكونية ولا المواثيق والمعاهدات الدولية استطاعت ان تنجح في خلق ذاك التناغم بين الشعوب والامم وحتى بين أفراد هذه الشعوب وان تجعل السلام يسود فيما بينها مما يبين ان النظرة المادية وحدها تبقى قاصرة، وان الواضع للقوانين والتشريعات لا يمكنه ان يلم بالكلية بل تبقى مجرد نمذجة لوضعية نسبية تتحكم فيها معطيات وشروط اولية ووقتية متغيرة في أبعاد الزمكان. وان تطرف الواضع والمشرع لقانون او لفصل لتدبير وضعية ما، أو لحل مشكلة ما، يماثلها تطرف العالم لنظرية أو لقانون كوني يتأكد مع الوقت قصره وعدم كليته في فهم وتحليل كامل لظاهرة طبيعية. لهذا تجد مجموعة من التجاذبات المجتمعية الداخلية في الوطن الواحد او الخارجية بين الامم، فتنتج الثورات والحروب ويسود ألا سلم. فاذا كان العالم قد فهم ألا قانون ثابت ولا نظرية كونية ابدية، فعلى عالم الاجتماع والمنظر والمشرع ان يفهم نفس الأمر وان يتجرد من انتمائه ومجموعته وانه مهما بلغ من الفهم يبقى قاصرا، فلا قوانين اثينا ورما بقت ولا شرائع حمو رابي صمدت فالكل متغير من الاساطير اليونانية الى المواثيق الدولية ومن الميكانيكا الكلاسيكية الى الميكانيكا الكمية. الناجي الوحيد في انتظار الحتمية النهائية هو من يتكيف ويبدع وينتج الافكار محاولا فهم العالم وفهم المحيط من العلوم الدقيقة الى العلوم السياسية وتشعباتها الاجتماعية لان النظرة المادية مهما علت تبقى قاصرة ومتغيرة في الزمكان وان القوانين الالهية تعلو على المواثيق والتشريعات الموضوعة مهما بلغت من الدقة والواقعية، فالعالم الان يحتاج الى الحكماء والعقلاء لا الى حمقى ومجانين ومزاجيين، لأننا امام مؤشر خطير ينبئ بنهاية هذا العاقل على هذا الكوكب خصوصا بعدما اصبح متاحا من أسلحة دمار وتقنيات فتك وقتل يصنعها هذا الانسان من اجل ان يقتل بها بني جلدته وهي اشد مظهر من مظاهر الأنانية والذاتية، والحكمة ليست بلحية ولا بعدمها ولا بصغر سن ولا بكبر فيه ولا بتكوين في العلوم السياسية ولا المخبرية ولا التطبيقية، بل بمدى فهمنا لهذا العالم والجدوى من وجودنا فيه، ومدى ايماننا العميق بمن اوجدنا. فلكل بداية نهاية ومهما طال الزمن وتمدد أو انكمش على نفسه فلهذا الكون نهاية حتمية، فلماذا يتسارع الناس للقتال ولماذا امتلأت الأرض حروبا، فيوما بعد يوم تشتد المعارك مرة باسم الدين ومرة باسم القومية ومرة باسم الاحترام ومرة باسم الريادة، لأننا ابتعدنا عن الهدف والحكمة من وجودنا، فمادامت هناك نهاية حتمية فردية وهي الموت، ونهاية حتمية كونية وهي الفناء، أفليس بيننا عقلاء ليذكروا العالم الجدوى من وجودنا فيعم السلام في هذه الارض ونعيش سواسية فوقها، كما سنسير الى الحياة الأخرى سواسية ولكل على نفسه ما جنى. فلم يتبق لهذا العاقل اكثر مما عاش فيه، فاذا كان العلم قد حدد ان 5400 سنة التي مرت منذ تاريخ ظهور الكتابة وتعاقب الحضارات في هذا العالم من الفرعونية واليونانية والرومانية والاسلامية مرورا بالعصر الوسيط الى عصر النهضة ثم العصر الحديث ومع كل تلك المتغيرات التي عرفتها الإنسانية بايجابياتها وسلبياتها، إلى المتغيرات المناخية، انها قد وصلت الى قمتها في وقتنا الحالي تنذر بأن الانحدار بات لا مفر منه وكل المؤشرات تؤكد ذلك وأن موعد النهاية بات يقترب لا مفر منه مع تجبر الإنسان وتغطرسه وأنانيته في كيفية تدبيره لهذا الكوكب، فليس علينا ان نتعاضد ونتحد ونتماسك فقط ايام الكوارث وزمن الخوف ووقت الحاجة، بل يجب أن يكون هذا هو أسلوب العيش فيها، فهذا الكائن النرجسي الذي يبحث عن السهل في الصعب وعن الصعب في السهل يتجاهل او يتناسى انه بإمكان الجميع ان يعيش في بحبوحة من العيش الكريم والسلام الدائم، ان هو تنازل عن عنتريه وأنانيته المفرطة في تملك الاشياء وحيازتها، وتجرد من ذاتيته وماديته، فلماذا يتقاتل أ من أجل حفنة تراب او قطعة أرض، أم من أجل استعباد انسان، غافلا ان الخلق والمخلوق للخالق وحده، وحتى وان كان ملحدا لا بد أن يفكر في أن العشوائية تولد الفوضى والفوضى تؤدي الى الدمار، اما فان كان عالما فلا بد له ان يعرف لكل متغير قوة، وكل قوة هناك من يولدها ويتحكم فيها، فإن أمن بهذا ايمانا قويا واقتنع به قناعة تامة، سيصلح العالم كيفما كان تخصصه انسانيا او اجتماعيا او سياسيا او دقيقا، ما افسده الحمقى والنرجسيون والمتملكون والمستعبدون للبشرية. فما دامت البداية واحدة والنهاية واحدة فما بينهما يجب ان يكون واحدا. * دكتور باحث