صار موضوع الدعاة في السنوات الأخيرة يشغل حيزا كبيرا من الاهتمام، لدى الخاصة والعامة على السواء، إلى درجة أصبح فيها بعض الدعاة يتساوون في الاهتمام مع غيرهم من الساسة والفنانين والرياضيين ورواد الموضة والجمال. يتجلى دور الدعاة والوعاظ عموما في تنظيم المعارف الدينية، وتوضيح الممارسات التعبدية؛ من خلال معرفتهم بالعلوم الشرعية ودرايتهم بالمناهج الدعوية. غير أن الدور المنوط بهم لا يقتصر على شرح التعاليم الدينية، وتوضيح الشعائر المقدسة فحسب، بل يتعدى الأمر ذلك إلى مسؤوليتهم على إشاعة ثقافة السلام والتسامح بين أفراد المجتمع؛ باختلاف مرجعياتهم، وبين المجتمعات الإنسانية باختلاف أديانها؛ ضمن مبدأ الانفتاح على الآخر وقبول الرأي المخالف. ومن ثم لم يعد مسموحا للداعية الانغلاق على ذاته والانكفاء عليها، أو اعتزال قضايا الأمة وهمومها في مختلف النوازل الطارئة. وتبعا لذلك، يتعزز دور الدعاة من خلال الحفاظ على التوازن الاجتماعي بنبذ كل أشكال الغلو والتطرف، ومواجهة خطاب الكراهية المبني على الإثنية أو الطائفية، كما يتعزز بتخفيف التوترات والاصطدامات بين الطبقات الاجتماعية، وتقوية المصالحة والتماسك بين أفراد المجتمع؛ من خلال الحث على التوزيع العادل للثروة المكدسة في اليد الواحدة، وعلى رفع الظلم وتحقيق العدالة، واحترام الكرامة الإنسانية. غير أن ثمة توجه نحو صناعة عينة من المتدينين تخضع لفئة دون غيرها، عبر تكميم الفكر، وعبر عدم التوفيق بين العقل والإيمان، قد ينتج عن ذلك تكريس تدين نمطي ومقولب، قد يفضي هو الآخر، وفق تصورات بعينها وتوجيهات بذاتها، إلى خلق مجتمع طائفي وإثني. فما بال بعض الدعاة تراهم يسلطون كل أضواءهم على العوام من الناس؛ فيبحثون عن زلاتهم، ويتوعدونهم بالويل والهلاك في الدنيا والآخرة، في حين تجدهم ينحازون للمترفين ويغضون الطرف عن تجاوزاتهم من تعسف ونهب، بل لا يملون ولا يكلون من الدعاء لهم بالهداية والمغفرة. ففي كل حين ينتهز هؤلاء الدعاة الفرصة ليثبتوا للناس أن سبب بلائهم وفاقتهم هو ارتكابهم للمعاصي والذنوب، فتجدهم بذلك يرفعون مسؤولية الظلم عن كاهل الظالمين والطغاة فيضعونها على عاتق المظلومين والبائسين؛ بل ويلاحقون هؤلاء بالعقاب والحساب. ورغم المكانة التي يحظى بها الدعاة داخل المجتمع، فإنهم يظلون مثلهم مثل سائر البشر؛ يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، يصيبون ويخطئون، فإذا علموا شيئا غابت عنهم أشياء، كما يطلبون الشهرة ويتحرون المناصب ويبحثون عن التميز. والدعاة أيضا يتنافسون ويتباغضون ويتحاسدون، غير أن لزلاتهم نتائج عكسية؛ لأنهم قدوة ومحل ثقة الناس، فإذا زلوا فقد يتبعهم الناس في زلاتهم بدون بصيرة ولا علم. وتبعات زلاتهم قد تصيب الناس بالإحباط أو تدمرهم بالانحراف. ومن ثم تنحط منزلة العلماء وتذهب هيبتهم أدراج الرياح. إن الداعية أو الواعظ، باعتباره شخصية عامة، مثل السياسي والمثقف والإعلامي والاقتصادي؛ فإن حياته الوظيفية أو الشخصية، ليست ملكا له لوحده أو لأقاربه فحسب، بل تتعداه إلى الغير وإلى كافة الناس، وقد يتجاوز الاهتمام به خارج الحدود؛ إلى درجة تتساوى فيه حياته الخاصة بالعامة؛ ومن ثم فإن هامش الخطأ والزلل لديه يجب أن يكون ضعيفا ومهملا.