لقد كان خطاب الملك أمام البرلمان الجديد، يوم 14 أكتوبر 2016 صريحا، وقويا وعميقا في نفس الوقت، في تشخيصه لأعطاب وأمراض الإدارة المغربية. حيث وضع أصبعه على مكامن الخلل في علاقة الإدارة بالمواطن خاصة، وعدم قدرتها على مواكبة التغيرات المجتمعية التي يعرفها المغرب في عصر سلطة وسطوة وسائل الاتصال الحديثة ،وبالتحديد وسائل التواصل الاجتماعي، لأّجل إصلاح تلك العلاقة في إطار مبادئ الشفافية ،والحكامة الجيدة ،واحترام مبادئ حقوق الإنسان. حينها لم يكن أحد من المغاربة يتصور، أنه يمكن ان تكون هناك استمرارية لكل تلك الممارسات اللامسؤولة ،والمتجاوزة للضوابط والمساطير القانونية، التي أشار إليه الخطاب الملكي، من طرف المسؤولين الإداريين في كل المستويات الإدارية بعد سماعهم التقريع الملكي لهم، وتحذيرهم من مغبة الاستمرار في تلك الممارسات التي تحط من كرامة المواطن ،وتعمل على إهانته في كل مرة يلجأ إليها من أجل قضاء مصالحه . غير أن المغاربة قاطبة صدموا، بالحادثة المروعة، التي يمكن القول، أنها جاءت خارج السياق تماما، لما كان يأمله المغاربة جميعا من الإدارة العمومية بعد الخطاب الملكي الأخير، والتي أدت إلى وفاة الشاب محسن فكري، بائع السمك بمدينة الحسيمة، وبتلك الطريقة الفظيعة، مطحونا في شاحنة النفايات. حادثة لم تكن في الحقيقة، سوى تجميع لجملة من الخروقات الإدارية، والممارسات التعسفية السلطوية، لمجموعة من المسؤولين الإداريين ورجال السلطة المحليين التي جعلتنا في نهاية المطاف نعيش احتقانا مجتمعيا خطيرا ووضعا احتجاجيا ينذر بالانفجار. ماذا يمكن أن نقول عن جهاز إداري قد يؤدي عبر ممارسات سلطوية لبعض المنتمين إليه إلى حرق البلد بأكمله ؟ بل إن المغاربة اليوم يتساءلون عن القوة التي أصبح يتوفر عليها الجهاز الإداري بالمغرب، وكذلك عن مدى حجم تلك القوة ودرجة التغول الذي صار عليه ذلك الجهاز لدرجة ممانعته ورفضه الانصياع لتعليمات و وأوامر أعلى سلطة بالمغرب. هذا يدفعنا للتذكير بكلام رئيس الحكومة ،الأستاذ عبد الإله بنكيران، قبل الانتخابات التشريعية الأخيرة، حول الروح التي تسكن جهاز وزارة الداخلية، وإن كان لم يحدد لنا طبيعة تلك الروح التي تسكنها بالتحديد !!. غير أني أعتقد أنه، ليست وزارة الداخلية وحدها التي تسكنها تلك الروح ،بل إن جميع الإدارات في المغرب تسكنها نفس الروح التي تسكن وزارة الداخلية. فعلا، لقد اتضح للمغاربة جميعا بعد حادثة وفاة الشاب محسن ،بائع السمك ،رحمه الله طبيعة تلك الروح التي أضحت تسكن في أغلب قطاعات الإدارة العمومية المغربية إن لم نقل كلها. إنها روح التمرد على الدستور و القانون والضوابط التشريعية في هذا البلد التي تسكن الإدارة المغربية وهي التي تؤدي إلى احتقار المغاربة وإهانتهم ،ولما لا قتلهم إن اقتضى الأمر ذلك والتسبب في طحنهم في حافلة نقل النفايات. فحين تقوم إدارة بالتغاضي عن أصحاب سفن صيد السمك ،بالصيد في الزمان والمكان الممنوع قانونا الصيد فيهما، فهي تسكنها روحا متمردة. وحين تقوم إدارة بالتواطؤ مع أخرى من أجل التضييق على عموم الناس في أقواتهم وأموالهم، فهي تسكنها روح متمردة؛ وحين تقوم إدارة للتغطية عن خرقها للقانون بالتزوير في محاضر رسمية ،فهي تسكنها روح متمردة؛ وأيضا حين يقوم رجال السلطة بالضغط على الناس، واستعمال نفوذهم المؤدي لخرق القانون، فتلك الإدارة التي ينتمون إليها أيضا تسكنها روحا متمردة. فمتى يتم تخليص الإدارة المغربية ،ومعها الشعب المغربي كله من تلك الروح المتمردة التي عششت وفرخت فيها، منذ ستين سنة أو يزيد، حتى لا يطحن الناس في أرزاقهم وأعمارهم بل حتى لا يطحن الوطن كله؟