لا تزال ردود الفعل تتابع من أغلب عواصم العالم الفاعلة في الشرق الأوسط، بعد خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي وضع فيه ولأول مرة منذ توليه الرئاسة في يناير من العام الجاري إستراتيجية واضحة تجاه أحد الملفات المهمة والمؤثرة، سواء على الشرق الأوسط أو على السلم و الأمن الدوليين، ولأول مرة أيضًا تتناغم معه أذرعه الدبلوماسية والعسكرية فيما قدمه من إستراتيجية تجاه إيران. فالخطاب الذي ألقاه ترامب – يوم الجمعة الماضي – حمل رؤية إدارته تجاه إيران التي اعتبرها في برنامجه الانتخابي عدوًّا استراتيجيًّا ولام على الرئيس الديمقراطي أوباما وحزبه سبل التعامل معها بشكل من أشكال محاولة الاحتواء والاستخدام، ترتكز رؤية إدارة ترامب حول الملف الإيراني في عشر نقاط، أولها تحييد التأثير المزعزع لاستقرار الحكومة الإيرانية ودعمها للإرهاب والمسلحين لاسيما في لبنان واليمن والعراق وسوريا،كما أكدت الرؤية على أهمية إعادة تنشيط تحالفاتها التقليدية وشراكتها الإقليمية كحائط صد ضد التخريب الإيراني، وهو ما يعني إعادة التزام أمريكا بأمن منطقة الخليج العربي على عكس ما كان يفعل سلفه الديمقراطي، وفي سبيل ذلك سيعمل على حرمان النظام الإيراني ولاسيما مؤسسة الحرس الثوري من تمويل أنشطته، وهو ما تأكد مباشرة من خلال توقيع وزارة الخزانة الأمريكية عددًا جديدًا من العقوبات على مجموعة من الشركات المنضوية تحت إطار عمل اقتصاديات الحرس الثوري، وهو ما تبلور في الحد من تغلغل الحرس الثوري الإيراني في مفاصل الاقتصاد لمنعه من مواصلة الاستيلاء على الأوقاف الدينية الضخمة، التي تمكنه من تمويل التدخلات العسكرية وتمويل المليشيات الأجنبية التابعة لها، ولما كانت الصواريخ البالستية هي أحد هواجس الولاياتالمتحدة وحلفائها في أوروبا فقد تعهدت الرؤية بمواجهتها مع العمل على حشد المجتمع الدولي ضد هذه المخاطر، والتي ترى فيها الولاياتالمتحدة ليس فقط تهديدًا للأمن العالمي وإنما تهديد للداخل الإيراني من حكومته التي تتخذ من القمع تنفيذًا لرغباتها، وهو ما انعكس على الحالة الحقوقية المذرية التي يعيشها الشعب الإيراني. أما الجانب الأهم في رؤية ترامب حول إيران على التزام واشنطن بحرمان النظام الإيراني من جميع المسارات المؤدية إلى سلاح نوويأو بما اصطلح ترامب على تسميته "حافة الامتلاك النووي"، وذلك يعد رفضًا لما نص عليه الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب الذي يسقط بعض القيود المعرفية عن إيران تدريجيًّا حتى عام 2025 لأنه وبحسب ترامب يرى في ذلك أن الاتفاق أجَّل امتلاك إيران للسلاح النووي ولم يمنعه . لكن ما لم يذكر في الخطاب ويراد تميمه، هو ما ذكره وزير خارجيته "ريكس تيلرسون" في مقابلة مع قناة CNN، أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة لا تهدف فقط للتعامل مع الاتفاق النووي، ولكن مع جميع تهديدات إيران، بما في ذلك نية واشنطن دعم قوى المعارضة الإيرانية على أمل أن يستعيد الشعب الإيراني السلطة في بلده، على حد تعبير تليرسون. ما صرح به تيلرسون ليس جديدًا، فقد عملت الإدارت الأمريكية منذ الثورة الخمينية عليه رغم تضارب المواقف داخل الإدارة الأمريكية، فعلى سبيل المثال، دعم البعض في إدارة كارتر انقلابًا عسكريًّا في طهران، فيما أراد آخرون العمل مع الخميني والمعارضة الإيرانية من أجل تقليل الخسائر الأمريكية، وكانت النتيجة فوضى سياسية. وقد واجه الرئيس "جورج دبليو بوش" عائقًا مماثلاً في فترة رئاسته الأولى، حيث كانت إدارته منقسمة بيأس بين أولئك الذين سعوا إلى كسب مساعدة طهران في أفغانستان والعراق، وأولئك الذين ساندوا فكرة تغيير النظام. وعلى النقيض من ذلك، حاولت إدارة ريجان اتباع سياسة الاحتواء والتقارب في وقت واحد حيث أقامت علاقات عسكرية مع دول مجلس التعاون الخليجي وطورت خطط حرب ضد إيران في الوقت الذي باعت فيه أسلحة إلى طهران لتعزيز العلاقات مع المعتدلين هناك. لكن يبقى التفسير لمصطلح "معتدلين" في منظومة اللادولة الإيرانية مصطلح بغير ذي قيمة، فالكل يتفق على هدف واحد رغم تقاسم الأدوار، وإن كان الإعلان عن تغيير النظام في إيران هو بمثابة حالة (لدغدغة) مشاعر حكام الخليج بعد شعور أمريكا بإفلات الأمور من أيديهم لصالح المنافس التقليدي روسيا، لاسيما بعد زيارة الملك سلمان لموسكو وعقده صفقة الدفاع الصاروخي المتطور (S 400 ). فإلى أيِّ حدٍّيمكن أن تنفذ الإدارة الأمريكية استراتيجيتها تجاه إيران، في ظل رغبة عارمة لوجود فزاعة، لا يمكن التخلي عنها من أجل الإبقاء على خزائن الخليج مفتوحة أمام أطماع التاجر الأمريكي، والذي طالما استفاد من تلك الخزائن في سد حاجاته، سواء في حالة العجز أو تمويل المشاريع، وهو ما تتفهمه إيران بشكل كبير، ويعني ذلك أنها ستلعب خلال الأيام القادمة على هذا الوتر لتمرير تلك الزوبعة، بل والاستفادة منها عبر تمدد أكبر في المنطقة، وبغض الطرف الأمريكي عن ذلك التوسع على حساب الدول العربية السنية، وهي في ذلك متكئة على أصدقائها الأوروبيين الذين سيعملون على تمرير تلك الملهاة، بحجة الالتزام بالاتفاق النووي.