"المغرب والأندلس" ركنا حضارة الغرب الإسلامي وصانعي تاريخه، وثنائية بدأت بالجغرافية ثم ترسخت و تقوت بالدين واللغة والثقافة،فتفاعلا وأبدعا وأسهما في صنع "حضارة إسلامية إنسانية" حملت لواء نشر العلم والمعرفة وبث النور في العالم زمن القرون الوسطى. ولما شاء الله تعالى نهضت أوروبا وانفكاكها من قيود التخلف الحضاري،وجدت أمامها الحضارة "الأندلسية الموريكسية" التي لم تبخل عليها بكل ما يسهم في خروجها من ظلمات الجهل والهمجية إلى نور العلم والرقي والتقدم. وبعد سقوط الأندلس وتعرضها أهلها لحرب صليبية ختمت بمحاكم التفتيش سعت إلى القضاء على الإرث الأندلسي الحضاري فكرا وبشرا، شاءت الأقدار أن تكون الضفة الجنوبية من الغرب الإسلامي" المملكة المغربية" مملكة قائمة قوية مؤهلة لتكون وارث "الحضارة الأندلسية الراقية" بكل خصائصها ومعالمها المتميزة، فحفظت لنا المملكة كثير من إرث هذه الحضارة،كما استضافت الفارين بدينهم و ثقافتهم-" الموريسكين"- بأرضها ورحبت بخصائصهم الحضارية والثقافية والفكرية والتي زادت في تنوع وغنى الحضارة المغربية وقوت إشعاعها الحضاري ووصولها إلى مختلف الأقطار وخصوصا العالم الجديد(أمريكا الشمالية والجنوبية)، هذه الحضارة التي حملت رسالة العلم والسلام والتسامح على طول مساحة حوضي المحيط الأطلسي والبحر الأبيض والمتوسط بل تجاوزته إلى مملكة غانا والبلدان المحيطة بها. تعرف المملكة بالمغربية في كتب التاريخ بأنها "دولة مركزية" وظهرت مركزية المغرب بوضوح بعد حكم المرابطين وتوسعهم من نهر السنغال جنوبا إلى طليطلة بالأندلس شمالا، ثم ترسخت هذه المركزية في حكم الموحدين بشكل كبير إلى أن وصل الحكم المغرب إلى يد السلاطين العلويين. مركزية الدولة المغربية جعلتها تتميز بتقاليد خاصة وعادات راقية في الحكم كباقي الإمبراطوريات والدول الكبرى والتي كان لها أثر كبير في الحضارة الإنسانية، ومن هذه التقاليد حرص المغاربة على العناية برموز السيادة والحكم، ومنها "الأعلام" بمختلف أنواعها واختصاصاتها سواء في شؤون الحرب أو السلم. والعلم المغربي الحالي قصة حضارة وحكاية أمة أثرت وتأثرت، وبمناسبة الذكرى المئوية للعلم الوطني المغربي الحالي(من17-11-1915 إلى 17-11-2015)، سأحاول إلقاء الضوء على بعض من تاريخ هذا العلم الذي يحمل رمزية حضارية وتاريخية ودينية وثقافية تتجاوز 1200عام من عمر المغرب الكبير. تحمل الأعلام في جميع التجمعات البشرية منذ التاريخ رمزية تشير إلى وحدتها وقوتها وملتها وثقافتها وعاداتها، و هذه الخصائص والمعالم تختصرها قطعة قماش على رمح أو عصا، فانتشار علم المجموعة يعني انتصار ذلك التجمع البشري وتحقيق أهدافه،وانحصاره وسقوط علمه يعنى هزيمة وتقهقره. وقد اهتم الإسلام برمزية العلم، فكان للنبي عليه الصلاة والسلام أعلام متنوعة ومختلفة الشكل واللون، حفظت لنا كتب السنة والسيرة النبوية المطهرة بعض ألوانها وقصصها وكانت في الغالب إما بيضاء اللون أو خضراء، وقصة غزوة مؤتة وتتداول قادة الجيش المسلم الأربعة على حمل الراية التي منحهم إياها النبي عليه الصلاة والسلام من أشهر القصص عن اهتمام المسلمين بهذه الرمزية وحمولتها الثقافية والدينية، والتضحية بالنفس والروح من أجل بقاء هذا العلم مرفوعا رفرافا،تقطع الأيادي دون سقوطه أو إهانته. وكذلك كان الشأن مع الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، ثم الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية وغيرها من الدول بالمشرق العربي. أما المغرب العربي، فقد أولى حكام المغرب الكبير أهمية كبرى للعلم ورمزيته في كل الدول التي حكمت المغرب من الأدارسة إلى العلويين. أما الأدارسة فاتخذوا علما مستطيلا أبيضا لا يتوسطه شيء، وهو علم تحرر المغرب من التبعية إلى المشرق العربي وقيام دولة مغربية في إطار نظام ملكي مبني على البيعة، فكان تاريخ بيعة الإمام إدريس الأول أميرا لدولة الجديدة بيعة إسلامية شرعية -يوم الجمعة رابع شهر رمضان عام 172ه، موافق سادس فبراير سنة 789- تاريخ قيام المملكة المغربية. أما المرابطون فعلمهم أبيض تتوسطه الشهادتين، كما احتفظوا بالعلم الأبيض الذي ورثوه عن الأدارسة والدولة الأموية بالأندلس والشرق العربي،وقد اقتدى بهم في ذلك الموحدين والسعديين والمرينيين بجانب أعلامهم الخاصة بدولتهم. أما الموحدون فاتخذوا علما عبارة عن مستطيل أحمر يتوسط إطار مكون من مربعات متساوية بيضاء وسوداء. أما المرينيون والوطاسيون والسعديون فهو عبارة عن مستطيل أحمر به إطار أصفر، ووسط الإطار الأصفر خاتم سليمان ثماني باللون أصفر. أما العلويون فقد اتخذوا منذ 1666 علما أحمرا قيل أنهم وجدوا عائلات أندلسية في الرباط وسلا وغيرها من المدن المغربية يرفعونه في بيتهم وترفعه الأسرة الحاكمة بها على مؤسستها، ولما دخلت تلك المدن في حكم العلويين، زكوا العلم الأحمر كشعار لهم منذ ذلك التاريخ. ولا يعني أن لهذه الدول علما واحدا دون غيره ولكن عرضنا ما هو مشهور مما تمكن الباحثون والمختصون من الوصول إليه إما لقلة المصادر التي تؤرخ للموضوع أو لصعوبة الوصول إلى بعضها. وحاصل هذا السرد أن الدول التي مرت في حكم المغرب الكبير كان لون أعلامها ما بين الأبيض والأحمر، فمن الأدارسة إلى الموحدين كان اللون الغالب على أعلامهم اللون الأبيض، ومن المرينيين إلى العلويين كان اللون الغالب على أعلامهم اللون الأحمر. وتحول حُكام المغرب من اللون الأبيض إلى اللون الأحمر تزامن مع تعرض المغرب آنذاك لعدة حملات عسكرية استعمارية فرضت على المغاربة بدل الغالي والنفيس في الدفاع عن المغرب وثغوره وسواحله، فاختلطت ألوية جيوشه وأعلامه بدماء الشهداء، فاستقر حكام المغرب على العلم الأحمر، كرمز للوفاء والتضحية واسترخاص الدماء في سبيل حماية حمى المغرب وأمن المغاربة. بقى العلم الأحمر هو علم المغرب، حتى أصدر السلطان مولاي يوسف بن الحسن ظهيرا شريفا يميز العلم المغربي الأحمر بخاتم سليماني مخمس وسطه، حينما شاعت وقتئذ أعلام حمراء لدول أخرى بالشكل واللون نفسه، وهذا نص الظهير الشريف : ( يعلم من كتابنا هذا أسمى الله مقداره وجعل على مركز اليمن والسعادة مداره أنه نظرا لترقي شؤون مملكتنا الشريفة وانتشار ألوية مجدها وفخارها ولما اقتضته الأحوال من تخصيصها براية تميزها عن غيرها من بقية الممالك وحيث كانت راية أسلافنا المقدسين تشبه بعض الرايات وخصوصا المستعملة في الإشارات البحرية اقتضى نظرنا الشريف تمييز رايتنا السعيدة بجعل الخاتم السليماني المخمس في وسطها باللون الأخضر راجين من الله سبحانه أن يبقيها خافقة برياح السعد والإقبال في الحال والمآل آمين والسلام). حرر برباط الفتح في 9 محرم عام 1334 الموافق 17 نوفمبر سنة 1915. ثم تداول هذا العلم" الحقل الأحمر الذي يتوسطه الخاتم السليماني المخمس الأخضر" المجاهدون والمقاومون ورجال الحركة الوطنية وجيش التحرير في جميع ربوع المملكة المغربية الشريفة، انتشار هذا العلم جعل السلطان محمد الخامس يتبناه كعلم رسمي وحيد للمملكة المغربية سنة 1947 بمرسوم ملكي. ثم حضي العلم المغربي الحالي بتكريس دستوري حينما جعل منه القانون الأساسي الصادر سنة 1962 في فصله السابع العلم الرسمي ورمز المملكة المغربية في المحافل الدولية والإقليمية والوطنية، وتم تفصيل شكل العلم ولونه وطريقة رفعه وتقاليد التعامل معه في عدة ظهائر شريفة آخرها الظهير الشريف رقم 1.05.99 الصادر بمراكش في 20 شوال 1426 الموافق 23 فبراير 2005 الذي يتعلق بخصوصيات علم المملكة المغربية والنشيد الوطني، وهذا الظهير فصّلَ خصائص العلم المغربي من حيث الشكل واللون والنجمة الخماسية ولونها ومكانها واتجاه فروعها، كما نسخ وعوض الظهير الشريف الصادر بتاريخ 9 محرم 1334 ( 17نوفمبر1915). هذا جزء من حكاية علم بدأ بألوية من الحرير الأبيض رمز السلام والصفاء والنقاء- اللون المحبب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- ثم تحول إلى اللون الأحمر رمز التضحية والوفاء والبطولة، وخاتم سليماني من صميم الحضارة العربية المغربية الإسلامية له رمزيته الدينية والثقافية، وهو يشير عند كثير من المؤرخين إلى أركان الإسلام الخمس والبيت النبوي ومكانتهم العظمية عند المغاربة، أما اللون الأخضر فهو إشارة إلى رمز اتصال العرش العلوي بالنسب النبوي الشريف، لهذا اختاره السلاطين العلويين لونا للعلم الذي يرمز إلى أسرتهم الحاكمة، والذي يمثله الآن علم الحرس الملكي الأخضر، والذي يحيه ملوك المغرب عند كل نشاط ملكي رسمي، كما أن اللون الأخضر لون العطاء وخصبة الأرض والنماء والأمل. العلم المغربي رمز حضارة عريقة قامت بمهمة الوساطة بين عالمين ونقطة اتصال بين حضارتين منذ قرون، ألوانه وشعاره يحكي تاريخ أمة تركت بصمتها الراقية في تاريخ الإنسانية. في ذكرى مئويته ندعو الله تعالى أن يحفظ المملكة المغربية الشريفة وشعبها وملكها، و يُديم علو رايتها خافقة برياح السعد والإقبال في الحال والمآل آمين والسلام.