تمثل هزيمة الجيش المغربي في موقعة ايسلي أمام الجيش الفرنسي (1844)، وتراجعه أمام الجيش الاسباني في حرب تطوان (1860)، وما ترتب عنهما من معاهدات وتنازلات وديون، عن تأخر المغرب ونظمه العتيقة التي لم يفكر المغاربة في تطويرها وإصلاحها. من هنا بدأ التفكير في ضرورة الاصلاح. لكن أي إصلاح وبأي منطق؟ ووفق أي تصور؟... الحديث عن المسألة الاصلاحية يثير عدة اشكاليات، منها ما يتصل بالجانب النظري (المفهوم والتصور)، وما يتعلق بالواقع والتدابير كما مورست على أرض الواقع. فضرورة الاصلاح تنشأ نتيجة الوعي بخلل ذاتي وتدهور للأوضاع الداخلية، كما يمكن أن يكون ناتجا عن وعي بالأخطار الخارجية المحدقة بالمجتمع، وقد يكون ناتجا عنهما معا، وهذا شأن المغرب منذ احتكاكه المباشر بالغرب الاوربي. بيد أن كل المحاولات الاصلاحية التي شهدها مغرب ما قبل الحماية، انتهت بالفشل سواء تلك التي تبناها السلاطين أو تلك التي دعا لها الفقهاء والمثقفون آنذاك، لأنها لم تجنب المغرب نكبة الاحتلال. ذلك أن الاصلاح لم يكن يعني معنى واحد بالنسبة للمخزن من جهة، وبالنسبة للرعية أو من يتكلم باسمها من جهة أخرى، –كما ذهب الى ذلك "عبد الله العروي" في كتابه مفهوم الدولة- فالإصلاح بالنسبة للدولة يعني تقوية السلطة بالتذرع بلزوم مواجهة العدو، أما بالنسبة للعلماء فيعني القضاء على أسباب الانحطاط وفي مقدمتها الاستبداد وتحقيق المصالح العامة وهو الطريق لمواجهة العدو. لكن الأكيد أن كل هذه المحاولات الاصلاحية لم تكن فاشلة عموما، لأنها افرزت بداية المسار الاصلاحي السياسي لإشراك الشعب في التسيير، وهو ما اثبتته بيعة السلطان المولى عبد الحفيظ الذي بايعه علماء فاس بيعة مشروطة بعد نزع البيعة عن اخيه مولاي عبد الحفيظ (1908)، وظهور النخبة المثقفة التي ستقود مشروع الاصلاح والدفاع عن حوزة البلاد بعد توقف المقاومة المسلحة التي واجهت الاحتلال في بداياته. تجسد الفكر الاصلاحي للحركة الوطنية الناشئة مع مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، في قوتها المجتمعية باعتبارها حركة جماهيرية شعبية عبرت عن لسان الشعب وقيادة كفاحه، وإتباع سياسة التدرج في مطالبها وتحركاتها، حيث اعترفت بالأمر الواقع الذي فرضته سلطات الحماية، لكنها بالمقابل طالبت سلطات الحماية بالقيام بالإصلاحات التي نصت عليها وثيقة الحماية (مطالب الشعب 1934) في مرحلة أولى، قبل أن تنتقل للمطالبة بالاستقلال (تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال 1944)، كما حاولت التقرب من السلطان وتنسيق نضالاتها معه واعتبرته رمز البلاد وضامن وحدتها. لقد لعب الفكر الاصلاحي الذي تبناه رجالات الحركة الوطنية دورا أساسيا في بناء الوفاق الوطني قبيل وخلال وبعد فترة الاستعمار، وهو ما جسدته مجموعة من المواقف الذي يمكن سردها كالتالي: - وفاق العلماء وإجماعهم على بيعة المولى عبد الحفيظ المشروطة. - وفاق رجالات الحركة الوطنية رغم اختلاف مشاربهم الفكرية على تبني فكر اصلاحي أفضى إلى استقلال البلاد. - وفاق رجالات الحركة الوطنية والمؤسسة السلطانية على تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال. - وفاق الملك والشعب بعد نفي السلطان محمد الخامس والذي جسدته ثورة الملك والشعب. - الوفاق الوطني من أجل استكمال الوحدة الترابية الذي جسده حدث المسيرة الخضراء. - وفاق تجربة التناوب التوافقي الذي تمثلت في اشراك المعارضة الاتحادية في الحكم. - الانتقال السلس للسلطة والعرش بعد تولية الحسن الثاني ومحمد السادس للعرش. - وفاق دستور فاتح يوليوز 2011، بعد الوضع الذي افرزته حركة 20 فبراير. هذه المحطات التوافقية حول مصلحة الوطن والبلاد والأمة وغيرها، جسدها فكر اصلاحي توافقي جعل من الحوار منهجا من المصلحة العامة هدفا، رغم ما شاب المرحلة من صراعات وتنازعات. لكن الأكيد أن هذه المحطات والمواقف تطرح على مواطن اليوم ومغرب ما بعد دستور 2011، مجموعة من الاشكاليات التي يجب مناقشتها ومراعاتها للسير على سكة الإصلاح والتي يمكن جرد بعضها في الاشكالات التالية: - ما هي المرجعية الفكرية التي انطلقت منها الحركة الوطنية لبناء فكر اصلاحي توافقي؟ - كيف ساهم فكر الحركة الوطنية الاصلاحي في بناء توافقات ما بعد الاستقلال؟ - كيف يمكن الاستفادة من تجربة الحركة الوطنية لبناء توافق يتجاوز الصراع الاديولوجي الى التنافس حول البرامج الاصلاحية للقوى الاجتماعية والسياسية لما بعد دستور 2011؟