أفتتح كتابتي بسم الله الرحمان الرحيم وأستهل مقالي بتبيان سبب كتابته، حيث أنني وجدت هذا الموضوع من أسخن المواضيع وأكثرها تداولا بين معارفي. فمنهم من يكفر بالديمقراطية من الأول بدعوى اختلالها مع مبادئ الدين، رغم أننا لو أمعنا النظر في جوهر ديننا الحنيف لوجدناه قائما على مبادئ الشورى واحترام رأي الأغلبية. ومنهم من يتشرب اليأس في نفسه ويصل إلى قناعة ثابتة بأن لا خير في أمة ولا نجاعة في ديمقراطية ما دامنا عُربا! فكأنه أصبح علينا محرما أن ننعم بحكام يسهرون على مصالح الشعب بدل أولئك الذين يقومون على "حلقومتنا" ليلا نهارا. وأنا لم آت هنا من أجل أن أزيد الطين بلة من خلال مناقشتي لنجاعة الديمقراطية في عالمنا العربي، فالأيام وحدها كفيلة بأن تبين لنا مدى نجاعتها، لكنني أشارك ببضع كلمات نيرات من أجل أن أساهم في بلورة أسباب جوهر الصراعات والأزمات الأخلاقية التي وللأسف بلغت عنان السماء في الأيام الأخيرة. وقد قررت أن أدلو بدلوي من جهتي وأقدم عصارة قراءاتي ونقاشاتي في بضع جمل عسى وعلى أن تكون لهذه الأسطر مقدمة وأرضية صلبة لمزيد من الكتابات والله ولي التوفيق. من أسباب الصراعات التي لا زلنا نكابد خسائرها هي انعدام ثقافة الديمقراطية بكل ما تحمله الكلمة من معنى على المستوين الشخصي والأممي. فشتان ما نلاحظ احتراما لرأي الآخر ومعتقداته، حتى أضحى التكفير وسيلة لإقصاء أي رأي نير مختلف عن رأي هؤلاء "المعصومين" وأصبحت السجون ملتجأ لكل من سولت نفسه التفكير في "الخروج عن رأي الجماعة". وكم من أناس نادوا بالإصلاح فكان القتل مبررا من أجل وأد هذه الفتنة. ولا يعرف هؤلاء "النوابغ" بأن الاختلاف هو سنة من سنن الله الكونية القائمة إلى يوم الدين، وأنه كلما ما اضطهدت بل وحاربت هذه السنة كلما ازدادت الجماهير إصرارا وتعصبا لمبادئها ومعتقداتها. وبالتالي نتيجة لذلك زيادة في الأحزاب وانقساما في المجتمعات وما أمثلة دول الربيع العربي عنا ببعيد. إذا نصل إلى مبدأ جوهري والمتمثل في أن تماسك الشعوب وتحررها تبدأ أولا من احترام رأي الغير مع تقويم القناعات الخاطئة من خلال حملات التوعية والتعليم لا من خلال العنف والإرهاب. وما أكثر الأمثلة التي يقوم فيها الناس بالثورة على رئيسهم الفرعوني والإتيان بآخر عن طريق اختيار شعبي، وإذا بنا نرى بعض السفهاء يتظاهرون "والجزم على رؤوسهم" حنينا إلى أيام من كان يدوس على أدمغتهم ليل نهار. إذاً نصل إلى جوهر القضية ألا وهي أن تغيير الفكر رغم صعوبته واستطالة أمده إلا أن لديه المفعول الساحر في تحريك وتقرير مصير الأمم نحو منحى معين بغض النظر عن الأوضاع السياسية والاقتصادية. فلو أمعنا في تجربة نهضة اليابان أثناء مرحلة توكوغوا. لوجدنا أن "دينامية الإنسان الياباني وقدرته على التطوير والإبداع" كان له الدور الفعال في نمو البحث والابتكار وأخلاق النهوض. ووجب الذكر بأن شح الموارد الطبيعية في اليابان كان له الفضل الأكبر في توجه الإدارة اليابانية إلى الاستثمار في الإنسان بوصفه القاعدة الصلبة والمنطلق الرئيسي لكل إصلاح وتغيير إيجابي يهدف إلى تدارك الفجوة الحضارية مع الغرب. وكان لا بد من التطرق والتمعن العميق في هذه القضايا الجوهرية. حيث أن بعضا من الأسباب الآتية هي فروع للأسباب السابقة، واحدة منها هي انعدام الثقافة الوطنية القائمة على تقديم أولوية الوطن ومصلحته فوق أي اعتبار. وكثيرة هي الأمثلة الدالة على تحزب أناس وراء فكر أو عقيدة أو مشاريع لا تقدم ولا تؤخر، وكم هم أولئك الذين يسيل لعابهم ويلتجؤون لوسائل مشروعة وغير مشروعة من أجل الوصول إلى سدة الحكم. وإذا ما افترضنا أنهم وصلوا إلى سدة الحكم عبر السبل المشروعة، لوجدنا أكثرهم استأثروا بها وأقصوا جميع الطوائف الوطنية التي يمكن بدورها المساهمة في نهضة هذه الأمة وإنقاذها من على شفا هاوية سحيقة. وهنا نرجع مرة أخرى إلى ضرورة إنشاء ثقافة قائمة على احتواء جميع من يريد النهوض بالأمة وإشراكهم من أجل بناء وطن قائم على التعدد الديني والمذهبي والمتموحر حول احترام حقوق الإنسان في الممارسة السياسية والتملك الاقتصادي وحرية التعبير. فهلم بنا من أجل دراسة المقاربة اليابانية في هذا المجال، حيث نلاحظ من خلال مرحلة توكوغاوا بأن من أوائل أسباب نهضة اليابان كان في توحد الشعب حول الإمبراطور طواعية وتوحدهم ضد سياسية الإمبرالية التوسعية الغربية العسكرية. ومن أمثلة ذلك تخلي غالبية حكام المقاطعات من الدايميو عن نزعتهم الانفصالية وخضعوهم تحت السلطة المركزية بقيادة الدايميو علاوة على ذلك تنازل معظم الشرائح من الساموراي عن امتيازاتهم التقليدية وانخراط جلهم في بناء سلطة مركزية في اليابان. فإذا نستخلص أهمية استثمار المجتمع والدولة كليهمافي العامل الإنساني ليس فقط كمورد للوطن ووقود نهضته بل كضمانة لاستمرارية المجتمع وديمومته. ولا يمكن أخذ الكينونة البشرية عن معزل من ثقافة المجتمع وتعليمه، فإذا وجب إعادة الاعتبار في المناهج التعليمية والتربوية كلبنة أساسية من أجل إنماء الشعور بالاعتزاز للوطن والعمل من أجل مصلحته. علاوة على ذلك، وجب أن تكون لهذه المناهج الدور المحوري في تعميم ثقافة احترام الرأي الاخر كما العمل والتعايش مع الغير. ومن هنا أشدد على الدور المحوري لهيئات المجتمع المدني والإعلام في المساهمة الفعالة في ديمومة ثقافة المجتمع وحركيته. إذا هي معان رغم بساطتها إلا أنها وللأسف غائبة عن مجتمعاتنا وهي وحدها كفيلة من أجل خلق أزمات لا نزال نعيش ويلاتها إلى الوقت الحاضر، فيا ليتنا نتخل عن عباءة الفرقة والتحزب والعصبية ولنعد إلى فسطاط التوحد من أجل النهوض من المستنقع الذي نعيش فيه.