حين أحسّ الزّعيم البوسني السّابق بزلزال المؤامرات التي تُحاك ضدّ بلده وشعبه بعد الاستفتاء المصيري، توجّه في إحدى خطاباته شديدة اللّهجة إلى أشباح الظّلام بالدّاخل والخارج قائلا: "الحياة بلا حرّية كلاحياة!!". من هنا فهمت القوى المتربّصة بواحدة من جمهوريات يوغوسلافيا، أنّ مناخ التّحدّيات قد تغيّر بفعل الوعي السّياسي الذي طبع الأجيال التّوّاقة إلى التّحرّر من ربقة الصّرب وتبعيته وسطوته، فما كان منها إلاّ أن أطلقت كلابها وأحزابها لتنهش اللّحوم، وتعيث فسادا، غير أنّ "علي عزّت بيجوفيتش" وضع خطّا أحمر دون قيمة الحرّية التي لا تخضع للمساومة والمراهنات في أسواق النّخاسة السّياسية برباطة الجأش، فلم ترهبه التّهديدات ولم تغره المساومات، فما كان من كيانات ودول عدّة إلاّ أن اعترفت بحقّ الشّعب البوسني في تحقيق ذاته أوروبّيا بل وعالميا، وإن بدا ذلك محتشما. وبعد الجدل الدّائر حول الحُرّيات الفردية ب"فرنسا"، والنّقاش المفتوح حول حظر "البوركيني" –لباس سباحة يغطي جسد النّساء-، تذكّر الكثيرون مقالة "بيجوفيتش"، التي لم يُخضعها للمساومة يوم رزحت بلاده تحت نير الحديد والنّار، وصاروا يعقدون مقارنات بينها وبين "فرنسا" التي اتّخذت أحداث باريس ذريعة للتبرّم من الشّعار الثّلاثي: (حرية-مساواة-إخاء)، فصارت تعدّل قوانينها بما يُلائم بعض الأصوات المُتنفّذة، وتفتح جروحا غائرة للأقلّيات الدّينية والعرقية تحت مبررّ محاربة الإرهاب، وتمسّ وجودها المعنوي على أرض ادّعت التّخلّص من ربقة الاستبداد منذ أن "شنقت آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس". وكان مما جادت به قريحة "الجمهورية" في الآونة الأخيرة قرار بلديات فرنسية حظر "البوركيني"، في ضرب صارخ لقيم "الحرية" و"المساواة" و"الإخاء" عرض الحائط، واستهداف ملايين الفرنسيين بهذا القرار الغريب، في الوقت الذي تعمل فيه بعض الدّول "العلمانية" المُجاورة على دمج هؤلاء، واعتبارهم مواطنين يتساوون في الحقوق والواجبات أمام دولة الحق والقانون. الغريب في الأمر، أنّ القرار يكاد لا يجد تبريرا في العقل الأوروبّي المحض، إذ القيمة التي منحت المرأة الاستمتاع ب"البيكيني" على عرض البحر هي ذاتها التي ستسمح لأخرى بلباس آخر يُدعى "البوركيني". وإذا كانت الحرية الفردية منوطة بتصرف الإنسان في جسمه والاكتفاء ب"البيكيني" على الشاطئ، فما الدّاعي إلى منع تغطية ذات الجسم كله ب"البوركيني"؟ وما وجه الاختلاف بين بعض الدّيكتاتوريات في "الدول المتخلفة" التي تُصرّ على شرعنة بعض القرارات المُقيّدة للحرّية المكفولة للإنسان بعلل مضحكة، وبين "الجمهورية الفرنسية" المتقدّمة التي تُقرّ هذا القرار العنصري في مواطنيها بأتفه المُبرّرات؟. لقد كان المفكّر الفرنسي "روجيه جارودي" صادقا حين انتقد كثيرا تلك النّظرة الدّونية التي ينظر بها الرّجل الغربي الأوروبي إلى بقيّة الحضارات ومظاهرها، وشعوره الدّائم بأحقّية قيادة العالم، واعتباره مركز الكون، وما عداه خُلق لخدمته، بدءا ب"المستعمرات" وخيراتها وأبنائها، وانتهاء بالتّطاول على كلّ الرّموز الحضارية والدّينية المخالفة بداعي تسويق الدّيموقراطية.. ونفسه ما حذر منه الدّكتور المهدي المنجرة من حصول "صدام الحضارات" الذي يرجع بالدّمار على القيم الإنسانية، ويفتح صفحة من الدّماء بين مختلف الشّعوب والثّقافات، واستفراد بعض الدول الكبرى بهذا العالم وتنصيب نفسها في مراكز الزعامة فيه. إذن، نحن اليوم، لسنا بصدد فرنسا العلمانية التي تُساوي جميع مواطنيها أمام القانون وأمام المبادئ الجمهورية الكُبرى التي تتغنّى بها صباح مساء، بقدر ما نحن أمام علمانية شُمولية تُكرّس ديكتاتورية القيم المادّية وتُلغي الآخر إلغاء عنصريا، وتجعل منه سبمان –أي: ما دون الإنسان- بتعبير الدّكتور عبد الوهّاب المسيري، وتقطع مع الادّعاء السّائد بأنّ فرنسا بلد الحرّيات بامتياز.